"صوموا تصحوا" على الطريقة الألمانية
كتب: فيليب بيتج، لاورا هوفلنجر وجوليا كوخ
مترجم للألوكة من اللغة الألمانية
ترجمه إلى العربية باختصار شديد: إسماعيل خليفة
لقد بدأتْ مجتمعات غنيَّة تُمارس التخلِّي عن الطعام، والمزيد من الألمان بدؤوا يصومون، فالصوم يمثِّل بدايةً جديدة للرُّوح والجسَد، فقد أظهرَت دراسات طبيَّة أن للصوم تأثيراتٍ علاجيَّة مؤكدة، بل إنَّ ذلك يدعو للتساؤل: هل يمكن لتقليل كميَّة السعرات الحرارية في الجسم بشكلٍ دائم أن يُطيل العُمر؟
يقول السيد المسيح: "عندما تصومون لا تكونوا عابسين الوجوه، كما يفعل المُراؤُون الذين يُقطبون وجوهَهم؛ لكي يَظهروا للناس صائمين"؛ مَتَّى 16:6.
السيدة "كون" عُمرها 46 سنة، وهي سيِّدة نحيفة، تحبُّ الضَّحِك، وتتحدَّث بقوة، وتعمل مهندسة معماريَّة ناجحة، السيدة "كون" تُمارس الصوم الاستشفائي في دير مارينتال؛ حيث تقضي هناك أسبوعًا من الصوم داخل أسوار الدير، وبعيدًا عن صَخَب العالَم.
أمر واحد كان يدعوها للتردُّد، وهو أنَّ بداية الصوم لا بدَّ أن تتمَّ بعد تناوُل مِلح غلاوبر - شراب يتمُّ من خلاله تفريغ الأمعاء، له تأثير مُشابه للحقنة الشرجيَّة - حيث إنَّ عليها أن تشربَ نِصف لتر من هذا المشروب عند وصولها إلى الدير؛ حيث يتمُّ تطهير الأمعاء وإفراغها تمامًا من أيِّ أطعمة، ثم تبدأ بعد ذلك رحلة الصوم، السيدة كون ليست الزائرة الوحيدة للدير، بل هناك الكثيرون الذين بدؤوا في التوافُد على الدير؛ ليمارسوا الصوم الاستشفائي، فيما يتزايَد عددُ الراغبين في تجربة الصوم الاستشفائي عبر دَير مارينتال أو عبر ما يُعْرَف بـ"عيادات الصوم".
لفترة طويلة كان العلاج عن طريق الصوم نوعًا من التحايُل على الطب، لكنَّ الدراسات الطبيَّة أثبتَت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أنَّ للصوم تأثيرات علاجية تتعدَّى الإزالة المؤقَّتة لأسباب المرض، ويعكف علماء الفيسيولوجي وعلماء الأدوية - الصيدلة - على اكتشاف أسرار بيولوجيا الجوع، فيما يخصُّ مستويات الإنزيمات والمؤثرات العصبيَّة.
ويقول الرئيس السابق لمستشفيات الشاريتية في برلين ديتلف جانتن: "فترات الجوع أمرٌ جيد للكائن الحي"، فعلى مدار فترات التطوُّر كان على الإنسان أن يتعايَش مع فترات من نقْص التغذية، وظلَّت هذه الخاصية الجينيَّة - الوراثية - موروثة في الإنسان.
ويقول أندرياس بفايفر خبير الأيض في مستشفيات الشاريتية الألمانية في برلين: إنَّ التأثيرات غير المباشرة للتجويع مُشجِّعة؛ حيث إنَّ ضغط الدم يعود إلى مستواه الطبيعي بعد أيام قليلة من الصوم بالنسبة لمرضى ضغط الدم المرتفع، كما أنَّ المرضى الذين يعانون من الآلام، أقرُّوا بتحسُّن مفاجئ في مُعاناتهم، كما ينعكس تقليل السعرات الحرارية الناتج عن الصوم إيجابيًّا على مخزون الأنسولين بالنسبة لمرض السكري.
وطبقًا للتجارب على نماذج عديدة من الكائنات الحيَّة، بدءًا من دودة القز إلى الكلاب، أثبَت العلماء أن تقليل تناول الطعام بشكلٍ دائمٍ، يساعد على إطالة العُمر؛ حيث إنَّ بعض الديدان النحيفة عاشَت مرَّتين ونصف أطول من مَثيلاتها الشبعة، وكذلك فإنَّ التخلي عن الطعام بالنسبة للبشر يدفع آليَّات فسيولوجية قديمة إلى العمل، ولولاها ما تمكَّن أسلافنا من البقاء على قيد الحياة أثناء فترات المجاعات، بل ويبدو أنَّ الإنسان قد عرَف بالفطرة - الغريزة - مدى التأثير الناجع للجوع المحدَّد على صحة الإنسان، فعند الفراعنة مثلاً كان الصوم لأيام عديدة يَسبق المناسبات الدينية، وفي "إسبرطة" كان يتمُّ تدريب النشء على التعوُّد على الصيام لفترات طويلة، وذلك لخلْق القوَّة عن طريق الاستغناء عن الشهوات، وكان النورمانيون - شعوب الشمال، أو الفايكنج - يصومون قبل المعارك المهمَّة؛ من أجْل أن "يقدِّموا للموت أجسادًا وأرواحًا طاهرة"، وحتى "بوذا" - وطبقًا للأسطورة - فإنه في رحلة بحْثه عن إشعاع الرُّوح بالنور قد عاش 7 سنوات يأكل البذور والحشائش فقط.
جميع الديانات الكبرى تَفرض على مُعتنقيها الصوم حتى يومنا هذا؛ حيث إنَّ التخلي عن الطعام يحرِّر النفس من الخطايا والآثام، ويكون استعدادًا لأعياد تأتي بعده، أو لتذكُّر الموتى، فاليهود يصومون 6 أيام في السنة لمدة 24 ساعة، دون أيِّ طعام جافٍّ أو سوائل، ويُعتبر يوم "كيبور"- يوم المصالحة - هو من أهمِّ أيَّام الصوم لدى اليهود، في حين يصوم بعض اليهود في ذكرى وفاة والِديهم، أو في ذكرى يوم زفافهم الشخصي.
فيما يصوم المسلمون في رمضان - شهر التطهُّر من الذنوب - لمدة 30 يومًا عن الطعام والشراب منذ شروق الشمس وحتى الغروب؛ حيث يبدأ الصوم رسميًّا مع زوال العتمة، من خلال التخلِّي عن الطعام.
يرجو المسلمون غفرانًا لذنوبهم، ويقول النبي محمد: إنه إذا جاء رمضان، أُغْلِقت أبواب النيران، وفُتحت أبواب الجِنان.
وفي المسيحية - وحسب إنجيل متَّى - فإنَّ المسيح صام 40 يومًا وليلة في الصحراء؛ حيث قاوَم بذلك إغواءات الشيطان، والذي قال له: "إن كنتَ ابن الله، فقُل أن تصير هذه الحجارة خُبزًا"، واستنادًا إلى ذلك يصوم المسيحيون ما يُعرف باسم الصوم الكبير، وهي الأربعون يومًا التي تَسبق الفصح، ويقول عالِم اللاهوت "جويدو فوكس"، والذي ألَّف مع القس الكاثوليكي كوليناريك كتابًا بعنوان "الرب والشهيَّة": "أوامر كثيرة أخرى بالصوم، تَمَّ نسيانها في المسيحية، فبالتأكيد تجد اليوم مَن لا يزال يعرف أن "عيد البشارة"، أو "الأدفنت" هو في الأساس فترة صوم، وأنه من الواجب صوم ساعة قبل التناول".
اليوم ظهَر ما يُعرَف بالصوم العلاجي، وهناك عيادات خاصة بذلك، مثل: عيادة "أوتو بوخينجر"، وهي العيادة التي أسَّسها أوتو بوخينجر عام 1919، وهو الرجل الذي ابتكَر ما يُعْرَف بـ "علاج بوخينجر عن طريق الصوم"، وذلك عن تجربة شخصيَّة.
مدير العيادة اليوم هو أندرياس بوخينجر، 62 عامًا، ذو نظرة حادَّة وصوت ناعم، وهو معالِج عن طريق الصوم أيضًا، يسير على خُطَى جَدِّه "أوتو" بعد أن جرَّب العلاج عن طريق الصوم، وكيف أنه كان يُعاني من روماتيزم حادٍّ، وبعد تجربة الصوم، وتناول الشربة وحْدَها تَمَّ شفاؤه للأبد، ومن هنا تسلَّم أندرياس عيادة جَدِّه التقليديَّة، فيما تَستعد ابنته لاستكمال المسيرة من بعده.
واليوم أصبَح الصوم على طريقة بوخينجر هو إحدى الطُّرق الرائدة في مجال الزُّهد والانقطاع عن الطعام؛ حيث يُمارس غالبيَّة معالجي الصوم برنامجًا يَعتمد على طريقة بوخينجر، وحتى في دير مارينتال يُمارس رُوَّاد الدير التقشُّفَ والزُّهد على طريقة بوخينجر.
وهناك نتائج طيبة لعيادات الصوم بصفة عامَّة؛ حيث تحكي بترا يانسنج - 47 عامًا - تجربتها مع الصوم، وكيف أثَّر الجوع تأثيرًا إيجابيًّا عليها قائلة: "في أول مرة كان لَدَي طاقة هائلة، وكنت أمشي لساعات في الغابة، وكنت بالتأكيد أشعرُ بالرغبة في النُّعاس"، متذكرة تجربتها مع عيادات الصوم، مثل: بوخينجر جلاوبربرج، وباد بيرمونت، وهي تقوم بالذَّهاب إلى عيادة باد بيرمونت بشكلٍ منتظم؛ من أجْل "أن تقوم بعملٍ لها وحْدَها"، وهو أن تُحافظ على صحَّتها وتقول: "ما تُنفقه بعض صديقاتي على حقن البوتوكس، أُنْفِقه
ويقول المعالج بوخينجر: "الصوم يُمكنه الحَد من الالتهابات"، وهو ما يُزيل السبب الرئيس لأمراضٍ كثيرة.
لكنَّ بعض الأطباء الآخرين يُشكِّكون في النجاح على المستوى البعيد؛ حيث يقول هانز هاونر طبيب التغذية من ميونيخ: "صحيح أنَّ الصوم يُقلِّل من حدوث التهابات، لكنَّ ذلك ليس بشكل دائمٍ، وهي طريقة لا تُعالج بها أي أمراض"، لكنَّ الكثيرين من المرضى سُعداء بتخفيف مُعاناتهم من خلال الصوم.
ويقول أندرياس ميشالزن أحد أطباء العلاج عن طريق الصوم: "حتى وإن كان الصوم لا يُحقِّق الشفاء في حالة الأمراض المستعصية، فإن بين يدينا نجاحًا بديلاً"، وذلك فيما يخصُّ إحدى مريضاته التي كانتْ تُعاني من مرض مستعصٍ، وتمكَّنت من التقليل من كميَّة الكورتيزون والأدوية الأخرى التي تتناولها، وكان الطبيب النرويجي المعروف "ينس كيلدسن كراخ" قد كتَب في مجلة "لانسيت" العلميَّة المتخصصة منذ عدة سنوات عن تأثير الصوم، وتعديل طُرق التغذية على الْتِهاب المفاصل الروماتويدي.
هناك ثلاث مجموعات من المرضى، يسعى ميشالزن إلى تحقيق تخفيف لمُعاناتهم عبر تقليل السعرات الحرارية، عن طريق الصوم، وهم: مرضى الروماتيزم، والمرضى ذَوُو الآلام المزمنة، والمرضى الذين يعانون من سِمنة مُفرطة، وهم المرضى الذين يعانون من مشكلات في ضغط الدم ومستوى السكر، تهدِّدهم بنوبات قلبيَّة عاجلاً أم أجلاً.
ويقول ميشالزن: "لقد استطعنا أن نَصِل إلى خفْضٍ لضغط الدم لَدَى المرضى الذين يعانون من متلازمة أيضية، وكان تَعاطي المريض أفضل مع الأنسولين".
أثناء الصوم يبدأ الجسم في استهلاك مخزون الطاقة الموجود في الجسم، وبعد يوم دون تغذية، فإن مخزون السكر في الكبد يتمُّ استهلاكه، وعلى المدى القصير يبدأ الجسم في الاستعانة بالبروتينات، من خلال الجهاز الهضمي والعضلات، والتي تتحوَّل إلى بناء الجلوكوز، "لاحِظ هنا أنه من السُّنة أن تُفطر على تَمْرٍ، وهو الذي يحتوي على كميَّة كبيرة من السكريات؛ لتعويض ما تَمَّ استهلاكه".
أما فيما يخصُّ مخزون الدهون، فإن عملية الأيض تتحوَّل من المستوى الطبيعي إلى مستوى الطوارئ، ويقوم الكبد والجهاز العضلي بزيادة استخدام الأحماض الدهنية كوقود للعمليات الحيويَّة في الجسم، وبعد 3 أيام من الصوم يبدأ الكبد في معالجة منتجات الهدْم الغذائي وتحويلها إلى أجسام كيتونيَّة، والتي تمدُّ المخ والقلب بالطاقة اللازمة بدلاً من الجلوكوز.
ويستطيع الإنسان الصحيح ذو الوزن المعتاد، أن يعيش قُرابة 40 يومًا دون تغذية؛ حيث يقوم الجسم بتخفيض استهلاكه للطاقة في أوقات الجوع، وتبدأ حرارة الجسم في الانخفاض بسهولة، وهو ما يُشعر الصائمين في بداية الصوم ببعض البرودة.
ومن أجل تقليل عملية هدْم البروتين قدْر الإمكان أثناء الصوم، فإنَّ الأطباء في عيادة "باد بيرمونت" ينصحون مرضاهم بالإكثار من الحركة، ويقول الدكتور بوخينجر: إنَّ العضلات الوحيدة التي يتراجع أداؤها هي عضلات المضْغ".
مع بداية الصوم يُصبح الجسم في حالة استعداد وتنبيه، وذلك بسبب إفراز هرمونات القلق والتوتُّر، مثل: الأدرينالين والكرتيزول، وبعد عدة أيام من الصوم، يُصبح المخ في حالة جيدة جدًّا، ويروي الكثيرون ممن جرَّبوا الصوم عن عُلوِّ مشاعرهم، وحدوث حالة توازُن لَدَيهم، بالإضافة إلى حِدَّة مفاجئة في التركيز، ويُرجع الأطباء هذه الحالة الطيبة للمخ إلى هرمون "سيروتوين"، أو هرمون السعادة، والذي يُصبح متاحًا لفترة أطول بسبب قلة ناقلاته، بسبب الصوم لفترة طويلة، ويؤثِّر ذلك في زيادة تأثير مضادات الاكتئاب.
ويقول جيرالد هوتر باحث علوم المخ، والذي يبحث في الفيسيولوجيا العصبية للصوم: "إنَّ هذه الأليَّة مهمة جدًّا؛ حيث إنها تحمي الإنسان من الهلَع في فترات المجاعات، وبالتالي تساعده على التركيز والتفكير بوضوح".
بعد 20 عامًا من بَدء التجارب الخاصة بالصوم على الحيوانات، كتَب الباحث في علوم الشيخوخة ريتشارد فايندورش في مجلة "ساينس" العلمية عام 2009 قائلاً: "إنَّ تقليل السعرات الحرارية يَكبح الشيخوخة لدى الرئيسيات، كما يُقلل من مخاطر الإصابة بأمراض، مثل: مرض السكري والسرطان، وأمراض القلب والدورة الدموية، وضمور المخ".
ويقوم دكتور لويجي فونتانا - الباحث في قسم طب الشيخوخة وعِلْم التغذية في كلية الطب في جامعة واشنطن بولاية "ميسوري" الأمريكية - بتجارب لمعرفة ما إذا كانتْ نظريَّة أنَّ الصوم يُطيل العُمر تسري أيضًا على البشر، لكن أن تُخضع متطوِّعين لحِمية صارمة لعقود، أمرٌ صعبٌ، إلاَّ أنَّ فونتانا حالَفَه الحظ، فقد أبدى أكثر من ألف متطوِّع - ممن يسمون أنفسهم "فناني الجوع"، والتابعين لجمعية تقليل السعرات الحرارية، وغالبيتهم من الأمريكيين - استعدادَهم للعيش بتقشُّف؛ لتقليل السعرات الحرارية، ويتردَّد كثيرٌ منهم على معمل فونتانا؛ لإجراء قياسات الدم والقلب، والدورة الدمويَّة
0 comments:
إرسال تعليق