إظهار الرسائل ذات التسميات * خطب عن الصوم *. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات * خطب عن الصوم *. إظهار كافة الرسائل
الخميس، 8 أكتوبر 2015
الصوم الحقيقي وترك الدخان والمخدرات
الصوم الحقيقي وترك الدخان والمخدرات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ:
فمما ثبت في فضل شهر رمضان ما رواه البخاري (38) ومسلم (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه)).
فمَن الصائم الذي يستحق هذا الثواب؟ هل هو من أمسك عن طعام والشراب والجماع فقط، وأصر على الكبائر؟ لا، إنما الصائم الذي يستحق هذا الثواب وغيره هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الجماع، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله، هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))؛ رواه البخاري (1903).
فالصوم الشرعي هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطع الصيام ويفسده، فكذلك الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتُصيِّره بمنزلة من لم يصم، فليس المقصود من شرعية الصوم نفسَ الجوع والعطش، بل ما يَتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمَّارة بالسوء للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك من الصائم، لم يحصل المقصود الذي شرعه الله الصيام لأجله، وهو حصول التقوى، وإلا فالله عز وجل مستغن عن خلقه، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين؛ ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7].
معاشر الصائمين، من لم يدع القيل والقال، وأطلق لسانه فيما لا يحل من القول، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من لم يدع سماع ما لا يحبه الله من الغيبة والنميمة والأغاني، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من لم يدع النظر المحرم من الصور المحرمة والأفلام الهابطة، والمسلسلات التي يُعْصَى اللهُ بها، ويُستهزئ فيها بدينه وأوليائه، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
من يتبادل الصور المحرمة مع غيره، وينشرها لأترابه، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من تعمد تفويت الصلوات المفروضات عن وقتها، أو صلاها في بيته من غير عذر، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من أحْيا ليله مُكبًّا على معصية الله، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من عمر الليل بالتدخين وشرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
مَن أصرَّ على المعاملات المحرمة والوقوع في المشتبه منها، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، مَن أطلق العِنان لنسائه يخرجنَ متبرجات للأسواق من غير حاجة، ومن غير حسيب، فيَفْتِنَّ ويُفْتَنَّ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من يدخل الخوف على المسلمين بسيارته، ويزعجهم بصرير إطارتها، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من يؤذي المسلمين في أعراضهم ويتحرش بنسائهم في الأسواق، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من يقْصِد تجمعات صغار السن آخر الليل، ويستعرض بسيارته عندهم استدراجًا لهم، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، من يؤذي المسلمين عبر الهاتف، ويتسوَّر به الأسوار، ويُغرر الجهال بمعسول الكلام، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
من يجلس خلف جهاز الحاسب، ويقضي وقته في كتابة ما لا يرضي الله عبر الإنترنت، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
إخواني الصائمين، التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرَّب إلى الله تعالى بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب إلى الله بالنوافل، وإن كان الصوم مجزئًا لا يؤمر مَن هذه حاله بالإعادة؛ لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهى الله عنه في الصوم خاصة، دون ارتكاب ما نهى الله عنه مطلقًا في الصيام وغيره، فهل فقِهنا معنى الصوم والحكمة من شرعيته؟
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي فتح لعباده باب التوبة، وجعل للصادقين منهم ما يعينهم على التخلص من أوضار المعاصي، فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان أحد على تقوى الله وحفظِ حدودِه واجتنابِ محارمه بمثل الصوم، فيجد المسلم من نفسه في رمضان إقبالاً على الطاعات، ونفورًا من المعاصي والمنكرات، فليكن هذا الشهر بداية تصحيح المسار إلى الآخرة والإقبال على من أضفى علينا نِعَمَه ظاهرة وباطنة؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
فلنتب إلى ربنا، ولنوطِّن أنفسنا على الاستمرار على طاعته ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وعلى ترك معاصيه كلها؛ ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
ها أنت أخي قد عمرت المساجد بتردُّدك عليها لأداء الصلوات، وقد زالت عنك هذه الوحشة حينما تحضر للمسجد، وزال عنك ما يلقيه الشيطان في نفسك بأن جميع مَن في المسجد ينظرون إليك، ووجدت في ذلك راحة بال وطمأنينة، لم تكن تجدها من قبلُ بسبب محافظتك على الصلاة مع الجماعة؛ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124].
وكيف لا تحصل لك هذه الطمأنينة والراحة وانشراح الصدر، والصلاة أعظم الذكر؛ ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]؟
بل كلما تستمر وتزداد قربًا من ربك، ازددت طمأنينة وأُنسًا وراحةَ نفسٍ، وإن كان ينقصك ما ينقصك من أمور الدنيا، فالعبرة بقرب الروح من ربها، وبُعدها منه، فهذا سر السعادة والشقاء، لا المال والشهوات.
أخي، حينما أقبلت على القرآن في رمضان - تلاوةً وسماعًا - وابتعدت عن لهو الحديث، وجدت أثرًا للقرآن في نفسك، فلا يجتمع قرآن الرحمن ورقية الشيطان في وقت واحد، فآياته حينما تتلوها أو تسمعها تتغلغل في أعماقك، وتُحدث أثرًا في نفسك؛ فتارة قُشَعْرِيرة حين السماع، وتارة أخرى لا تملك عينيك، فتفيض بالدمع، وتارة ثالثة تجد آيات القرآن تتجلجل في نفسك وتهزها هزًّا حينما تريد أن ترجع إلى بعض ما اعتدته من معاصي الله، أو ترك بعض الواجبات، فتحجم عنها.
أخي المدخن، الدخان بوابة كل شر، فكم من معصية وانحراف عن صراط الله المستقيم، كانت البداية به!
كم عرَّف صاحبَه على من لا يُرضَى دينُه وخلقه! كم أحوجه إلى الالتقاء بهم ومخالطتهم!
أخي، أراك تقضي الوقت الطويل خلال الصوم صابرًا عنه امتثالاً لأمر الله؛ حيث أوجب عليك الإمساك عن المفطرات، فهل من الحكمة أن تمسك عنه بالنهار وتشربه بالليل، مع أنك تعتقد تحريمه في الليل والنهار؟! فهل عقدت العزم على تركه والامتناع عنه تعبدًا لله، كما أنك تتركه في نهار رمضان تعبدًا؟
واعلم أن الله معك معين متى ما صدقت معه، فأحرق شهوة شربه بجمرة الخوف من الله تعالى، وفارِق مجالس المدخنين، فستكون هذه نهايةَ التدخين عندك بإذن الله، فابدأ بعزيمة صادقة، واعلم أن من ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه، فعن أبي قتادة وأبي الدهماء قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، قال: نعم سمعته يقول: ((إنك لن تدَع شيئًا لله عز وجل إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه))؛ رواه أحمد، ورواته ثِقات.
عباد الله، حينما نزل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91].
ما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلا امتثال الأمر، فأهرقوا ما كان عندهم من خمور، فبصدق الإيمان يتم التغلب على المألوفات المحرمة، وإن كانت النفس شديدة التعلق بها، ولا يتبادر إلى الذهن أن التحريم خاص بالخمر فقط، بل كل ما يُتعاطَى لأجل اللذة والطرب، فهو خمر محرم؛ سواء تُعُوطِي عن طريق الفم، أو الأنف، أو الوريد؛ فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة))؛ رواه البخاري (5575)، ومسلم (2003)، واللفظ له.
يا مَن ابتليت بالمسكرات والمخدرات، ألا تتركُ لذة عاجلة آخرُها هَمٌّ بلذة باقية في الآخرة؟!
فاعقد العزم وتوكَّل على ربك، وتذكَّر أجدادك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدمنوها سنين في الجاهلية وفي الإسلام قبل تحريمها، فلما نزل التحريم، قالوا: انتهينا، انتهينا.
أخي، أهلك وأحباؤك وإخوانك المسلمون ينتظرون منك: انتهينا، انتهينا، فمتى يسعدون بسماعها منك؟ يَحْدوني الرجاء أن تقولها الآن في نفسك، ثبَّتك الله وأسعدك بطاعته.
فوائد وحكم الصوم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه لنفسه والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأشهد أن أفضل خلق الله وأحبهم إلى الله، وأهداهم إليه سبيلًا، عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الصوم مظهر من مظاهر الدين الحنيف، ودليل قاطع على القيام بأمر الله عن محبةٍ ورضىً وانقيادٍ وخضوعٍ تامٍ لأوامر الله تبارك وتعالى، ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ولله سبحانه الحكمة البالغة.
وقد فرض الله على المسلمين الصيام لحكم عديدة، كلها في صالح الإسلام والمسلمين، فمنها أن الصيام يقوي النفس والإرادة والعزيمة، وذلك أن الإنسان متى امتثل أمر الله تبارك وتعالى واستطاع أن يغالب شهواته فيسيطر عليها، ويترك المشارب الحلوة والمآكل اللذيذة وغير ذلك، امتثالًا لأمر الله واحتسابًا للثواب عنده، عندها تُربى عند الصائم إرادة قوية صارمة، وصار عبدًا لربه، لا عبدًا لشهواته ومطامعه، واقتدر على امتلاك زمام نفسه وإرشادها وتوجيهها الوجهة الصالحة.
قال الشاعر:
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى
مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ
فليس المقصود من الصيام في الإسلام هو إتعاب النفس وتعذيبها، كما يتوهمه بعض الناس، وإنما المقصود منه تربيتها وتزكيتها وتعليمها الصبر عن الشهوات، وترويضها على الطاعات، كما روى ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصيام نصف الصبر)).
فالله غني عنَّا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا، ولإعداد نفوسنا للسعادة والتقوى، والفوز بلقائه، ومجازاته الجزاء الأوفى، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَِنْفُسِهِمْ ﴾ [الروم: 44].
وليست فوائد الصيام مقصورة على الفوز بلقاء الله في الآخرة فقط؛ بل له من الفوائد الكثيرة في الدنيا ما لا يحصى:
فمن فوائده: أن الذي يصوم إيمانًا واحتسابًا لا يُنتظر منه أن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يمسك بأعراضهم أو يخونهم في أماناتهم، فلا يسهل عليه أن يراه الله على باطلٍ أو فعلٍ حرام.
ومن فوائده: أن الصيام أقوى مربٍّ للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ كما قال مفسر القرآن البيضاوي: (إن الصيام: الإمساك عن جميع ما تهوى النفس مما لا يرضي الله).
ومن فوائده: أن يتذكر الأغنياء والموسرون أنَّ لهم إخوانًا فقراء ليواسوهم وليعطفوا عليهم، وذلك بعد أن يذوقوا ألمه، ويعرفوا الجوع وحرارته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع إنه بئس الضجيع)).
ومن فوائد الصيام: إنه يَصِحُّ الأبدان ويقويها، وينشفها من الرطوبة، وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صوموا تصحوا))، وقال: ((الصوم جُنَّة))، أي: يستر صاحبه ويقيه من الأمراض والآثام والمضار والمعاصي.
جعلنا الله ممن وفقوا في صيام هذا الشهر المبارك وَقَبِلَهُ منا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لنا جميعًا ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي دعى إلى الإحسان، وحرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، ورسولًا للثقلين، وجعل محبته فرضًا عليهم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الله افترض علينا الصوم، وجعل كل واحد منا أمينًا على نفسه رقيبًا عليها، فلاحظوا أنفسكم وراقبوها، واحذروا الغيبة والنميمة، والنظر إلى المحرمات، وقول الزور.
فقد قال جمع من العلماء منهم الأوزاعي: ((إن الغيبة والنميمة والكذب تفطر الصائم، وتوجب قضاء ذلك اليوم الذي اغتاب فيه، أو نمَّ فيه، أو كذب فيه))، وقال الإمام ابن حزم: ((إن الصائم يفطر بأي معصية يرتكبها حالة كونه ذاكرًا لصومه متعمدًا المعصية)).
ويصدق ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
وقال أحد العلماء - فيمن يعصي وهو صائم -: ((أنه كمن يبني بيتًا ويهدم بلدًا كاملًا)).
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا في عبادته، واعلموا أن الصوم لله، وأن جزاءه الجنة، فاجتنبوا الغيبة والنميمة والكذب والمعاصي؛ فإنها منقصات للصوم، محبطات لثوابه.
فليحذر كل إنسان منَّا أن يكون حظه من صيامه الجوع والعطش، أو أن يكون كمن يبني بيتًا، ويهدم بلدًا كاملًا.
فاتقوا الله، فإن خير الزاد التقوى، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن أحسن الحديث كتابه، فاقرأوه واستمعوه، ولاحظوا معانيه، فقد جمع وأوعى، ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
وعليكم بسنة نبيكم؛ فإنها أصدق السنن وأحسنها، فاتبعوا أوامره؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واجمعهم على الحق، اللهم ولِّ علينا خيارنا، وانصر أمتنا وسلطاننا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأيد هذا الدين، بمن تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفرج كربهم، ويسر لهم أمورهم، وقوهم وانصرهم على أعدائهم؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90،91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يبارك لكم ويزدكم، ولذكر الله أكبر، والله مطلع على ما تفعلون.
الصوم الحقيقي وصوم المريض والمسافر
الصوم الحقيقي
وصوم المريض والمسافر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ:
ها نحن في مطلع هذا الشهر الكريم، وما أسرع ما ينقضي كما انقضى غيره من الشهور، فلنُحسن العمل فيه، ولنستثمر أوقاته فيما يُقربنا إلى الله، فالمغبون الحقيقي هو مَن غبَن الأوقات الفاضلة، فانقضت في لهوٍ وغفلة، وغيره يقضيها في بر وطاعة، يترقى في درجات الكمال، من لم يتعرض لجود الله وكرمه في هذا الشهر، ويُقبل على طاعته، ويبتعد عن معصيته، فأحرى ألا ينتفع بغير رمضان، فمن ضيَّع هذا الشهر الفاضل الذي يجد فيه الصائمون من العون على الطاعة ما لا يجدونه في غيره من الشهور، فهو لما سوى رمضان أضيع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة)؛ رواه الترمذي (3545)، وقال: حديث حسن غريب.
فمن أدرك رمضان ولم يغفر له، فلم يحصل إلا الرغام وهو التراب، وهذا كناية عن الذل والمهانة؛ فلنحرص على المحافظة على صلاة التراويح؛ فصلاة التراويح دقائق قليلة تنقضي ويبقى أجرها نجده في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الحسنات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)؛ رواه البخاري (37)، ومسلم (759).
ولنحافظ عليها كاملة مع الإمام؛ ليكتب لنا بهذه الدقائق القليلة أجر قيام ساعات طوال، ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه في قيامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان قال: "قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال: فقال: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حُسِب له قيام ليلة)"؛ رواه أبو داود (1375) وغيره بإسناد صحيح.
إخوتي، تجدوننا نحرص على تجنُّب المفطرات الحسية من أكل وشرب وغيرهما، ونسأل عما يشكل علينا: هل هذا من المفطرات أم لا؟ وربما تجنَّبنا بعض الأشياء ورعًا؛ لأن بعض أهل العلم عدَّها من المفطرات، وهذا حسن، لكن البعض يغفل عن المفطرات المعنوية التي تفسد أجر الصيام أو تنقصه، من المحرمات التي هي محرمة في الصيام وغير الصيام، فلا تصوم جوارحه عن الحرام، وقد لفت النبي لهذا المعنى في توجيهه لنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتَله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح، وإذا لقِي ربَّه فرِح بصومه)؛ رواه البخاري (1904)، ومسلم (1151).
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصائم حين يتعرض لأمر قد يتسبب في استفزازه، ومن ثم يقع في الخطأ، أرشده أن يقول: "إني امرؤ صائم"، صائم عن أشياء محرمة عليّ أثناء النهار فقط، فمن باب أَوْلَى أن أُمسك عما حرَّم الله عليّ دائمًا من التعرض للمسلمين والاعتداء عليهم، فمن صام عن الأشياء المحرمة في نهار الصيام فقط، فحَرِيٌّ أن يصوم عن المحرمات مطلقًا في رمضان وغيره، فمن أصر على المحرمات، فلم يصم الصوم الحقيقي الذي ينتفع به صاحبه، ولم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
بعض مساجدنا تشتكي من الإزعاج أثناء صلاة التراويح والقيام، فالواجب على الآباء تعاهُد أبنائهم والتأكد من أنهم ليسوا طرفًا في الضوضاء، وليس من الحسن أن يتغافل الأب عن أبنائه حتى يوجه إليه العتب المباشر.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعدُ:
فمن لُطف الله بعباده أن شرع لهم دينًا في أصله اليسر؛ ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].
وإذا عرض عارض غير معتاد على المسلم يتسبَّب في المشقة، يسَّر الله عليهم تيسيرًا زائدًا على أصل الدين؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].
ومن الذين خفَّف عليهم في الصيام: المريض والمسافر، فالمريض الذي يطيق الصيام لا يخلو من أحوال:
الأولى: ألا يتضرر بالصوم؛ لكون المرض خفيفًا كالصداع، أو يكون المرض شديدًا لكنَّه لا يزيده الصيام، ولا يشق عليه الصيام، ولا يحتاج لتناول دواء في النهار، فلا يفطر؛ لأنَّ المبيح للفطر العذر، وهو غير موجود، فهو شاهد للشهر لا يؤذيه الصوم، فلزِمه الصوم كالصحيح.
الثانية: أن يشق عليه الصيام من غير ضرر، فالسنة الفطر، ويُكره الصيام؛ لأنَّه يترك تخفيف الله ورُخصته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه"؛ رواه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
فمن أخذ بالشاق، فقد خالف سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: أن يضره الصيام بتأخر الشفاء، أو بزيادة المرض، أو بخوف الهلاك، فالفطر واجب، ويحرم الصيام لإضراره بنفسه، وقد نهى ربنا تبارك وتعالى عن ذلك: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
أما المريض الذي لا يمكن أن يقضي لاستمرار مرضه، ويرجع في تقدير ذلك لأهل الطب أو لأصحاب الخبرة، فيطعم بعد انقضاء رمضان عن كل يوم مسكينًا - مُدًّا من الأرز أو البر؛ أي: نصف كيلو - فالطعام بدل عن الصيام، فإذا لم يستطع المريض الصيام، وجب عليه البدل، وهو الإطعام، ومثل المريض كبير السن الممتع بعقله، أما الهرم المُفند - وهو الذي أنكر عقله - فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام؛ لأنه غير مكلف.
وكذلك المسافر لا يخلو من أحوال:
الأولى: أن يستوي عنده الصيام والفطر، فيقوى على الصيام من غير مشقة، فالأفضل الصيام؛ لأنَّه أسرع لإبراء الذمة، وأسهل على المكلف غالبًا، ويتدارك الزمن الفاضل؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة رضي الله عنه؛ رواه البخاري (1945)، ومسلم (1122).
فيحمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة رضي الله عنه على عدم المشقة، والله أعلم.
الثانية: أن يكون أحدهما أيسر له، فإن كان الأيسر له الفطر، فالأفضل الفطر، وإن كان الأيسر له الصيام، فالأفضل الصيام؛ قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنَّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أنَّ من وجد قوة فصام، فإنَّ ذلك حسن، ويرون أنَّ من وجد ضعفًا فأفطر، فإنَّ ذلك حسن"؛ رواه مسلم (1116)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/186): هذا التفصيل هو المعتمد، وهو نص رافع للنزاع، والله أعلم.
الثالثة: أن يكون الصوم يشق عليه من غير ضرر، فالأفضل الفطر، ويُكره الصيام؛ فعن جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحامًا ورجلاً قد ظُلِّل عليه، فقال: (ما هذا؟)، فقالوا: صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر)؛ رواه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
فليس من البر أن يجهد الصائم نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ من التعب والمشقة، وقد رخَّص الله له في الفطر، والحديث خرج على سبب، فيقصر عليه وعلى مَن كان في مثل حاله.
الرابعة: أن يكون الصوم يشق عليه مع الضرر، فيحرم الصوم لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
وعن جابر بن عبدالله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُرَاع الغَمِيم - هو ما يعرف اليوم ببرقاء الغميم - فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة)، وفي رواية: فقيل له: إنَّ الناس قد شق عليهم الصيام، وإنَّما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر؛ رواه مسلم (1114).
العهد مع شهرِ الصيام
يتجدَّد العهد مع شهرِ الصيام كلَّ عام، وتستقبله نفوسُ المؤمنين استقبالَ الغائب الحبيب، الذي طالَ انتظارُه، وترقُّبُ أوْبَتِه، ففاجأ أهله بالعودة، حاملاً معه البُشرى والسرور، وكلَّ ما يُفرح القلوبَ، ويُبهج النفوس، وأيُّ خير أعظم وأغْلى مما يحمله شهرُ القرآن لأمَّة الإسلام؟! لا سيما للمقصِّرين والمفرِّطين الذين لطمتْهم أمواجُ الأهواء والشهوات، وكادتْ تغرقهم في بحرِها اللُّجي العريض.
ولعلَّ مِن أبرز خيرات هذا الشهر المبارك: أنه يُحيي وقدَةَ الإيمان في قلْب المؤمن، ويبعثها حيةً من جديد، مهما خبَتْ تحت رَمادِ الغَفْلة والتفريط.
وبذلك يتنبَّهُ المؤمِن مِن غفلته، ويُدرك خطأه، ولا يجد أمامَه إلاَّ اللجوءَ إلى الله تعالى، والارْتماء على عَتَبات الذُّلِّ والإنابة، مؤمِّلاً العفو والمغفرة من ربٍّ كريم، واسعِ الجود، كثيرِ العطاء، بعبادِه رؤوف رحيم.
والسعيد مَن أدركتْه رحمةُ الله - تعالى - فَيُمْحى بها ذَنْبُهُ، ويُغسلُ ما ران على قلْبه مِن آثار التفريط والتقصير، فيطَّهَّر مِن أدران الإعراض، ويرجع إلى نَقاء الفِطرة، وشفافية الوجدان، ويستقبل الحياةَ مستمسكًا بحِبال الرجاء، وينتظم في سِلك التائبين المقبولين، وكله أمَلٌ أن يشملَه عفوُ الله تعالى.
وإنه لجدير بالمؤمن - وهو يُرتِّل القرآنَ في هذا الشهر الكريم - أن يخشعَ قلبُه ويَلين، وَيُحِسَّ مع هَدْأة اللَّيْل وسكونه أنَّ هذا الوحي الإلهي موجَّهٌ إليه بالذات، وأنَّ خالقه العظيم يُعاتبه عتابَ الودود الشفيق، ويستجيش مشاعرَه ووجدانه؛ ليتفكَّرَ ويعتبر، ويُسْقِطَ واقعَ حاله على ما هو مطلوبٌ منه، وما يجب أن يكون عليه، فيدرك أخطاءَه، ويعترف بتقصيره، ويُسرِع بالعودة إلى سلامة الفِطرة، ونقاء العقيدة، وَيَلِجُ مِن باب الأمَل والرَّجاء إلى حِمَى الرحمن، وظلال الإيمان، ويَضَع عن كاهله أوزارَ الانحراف وأثقالَه، فقد حُقَّ له أن يستريح، وآنَ له أن يؤوب؛ فما للعَبَث خُلِق، ولا باللهوِّ واللعب تتحقَّق الآمال، وإنها لحسرةٌ كبيرة، وخسارة عظيمة أنْ تنقضيَ بهما الأعمار، ويسيطرَ اليأس والقنوطُ على القلوب والنفوس.
إنَّ قلب التقيِّ مطمئنٌّ بالإيمان، واثقٌ بوعد الله - عزَّ وجلَّ - الذي تنزَّل به الذكر الحكيم: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
فلا يأسَ مع الإيمان؛ ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، ولا قنوطَ ما صفَتِ العقيدة، وَصَلح القلْب؛ {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]؛ ذلك أنَّه مهما عظُم الذنب، فعفوُ الربِّ أكبرُ وأعظم، ومهما امتدتْ مسافة الإعراض، فساحةُ الجود والرحمة أوسعُ وأرْحب، ومهما طال زمنُ التفريط، فباب التوبة مفتوح لا يُغلَق؛ ((إنَّ للتوبة بابًا لا يُغلَق، حتى تطلعَ الشمس من مغرِبها))[1].
ونداء الحق خالدٌ على الأبَد، يبشِّر المؤمنين؛ ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
إنَّ خِصالَ الخير في هذا الشهر المبارك كثيرةٌ ومتنوِّعة، فهو شهرُ الصيام، والقيام، وغض البصر، وحِفظ اللسان.
شهر نزول القرآن، الذي أنشأ أمَّة، وبنَى جيلاً، وأسَّس دولة.
شهر ليلة القدْر، التي جعَلَها الله خيرًا من ألْف شهر، شهر الدعاء المستجاب، والعمل المقبول.
إنَّه شهر الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الأعداء على كلِّ الأصعدة، وفي شتَّى الميادين.
إنَّه شهر الفُرْقان، فيه نصَر اللهُ - تبارك وتعالى - نبيَّه - رضي الله عنه - ببدر يومَ الْتقَى الجمعان، ففرَّق - بذلك - بيْن الحق والباطل، إلى يومِ الدِّين.
جائزة الصائمين:
إنَّه شهر حبا الله فيه أُمَّةَ الإسلام مِن الإنعام، والإكرام، والأفضال، ما لم تنلْه أمَّة نبيٍّ قبل محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
روى البيهقيُّ عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُعطِيتْ أمَّتي في رمضان خمسًا، لم يعطهنَّ نبيٌّ قبلي:
أمَّا واحدة: فإنَّه إذا كان أوَّلُ ليلة مِن رمضان ينظر الله - عزَّ وجلَّ - إليهم، ومَن نظَر الله إليه لم يعذبْه أبدًا.
وأما الثانية: فإنَّ خُلوف أفواههم - رائحتها - حين يُمسُون أطيبُ عند الله مِن رِيح المِسْك.
وأما الثالثة: فإنَّ الملائكة تستغفر لهم في كلِّ يوم وليلة.
وأما الرابعة: فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يأمر جَنَّتَه، فيقول لها: استعدِّي وتزيَّني لعبادي، أوْشكَ أن يستريحوا من تَعَبِ الدنيا، إلى داري وكرامتي.
وأما الخامسة: فإنَّه إذا كان آخِرُ ليلة غفَر الله لهم جميعًا))، فقال رجل مِن القوم: أهي ليلةُ القدر؟ فقال: ((لا، ألم تَرَ إلى العمَّال يعملون، فإذا فرَغُوا من أعمالهم وُفُّوا أجورَهم؟!)).
أرأيتم أيها الإخوان، هذا الخير العظيم، والجُود العميم، يتفضَّل به الربُّ الكريم، على عباده الصالحين.
لقد وعَى المسلمون الأوَّلون هذه الحقائق، فكان رمضانُ عندَهم غنيمةً من الغنائم، يتسابقون لنيلِ أكبرِ قدْرٍ مِن ثوابها العظيم.
أنواع الصائمين:
إنَّ للناس في صيامِهم ألوانًا منَ العادات والتقاليد، توارثوها على مرِّ الأجيال، منها البعيدُ عن الإسلام بُعدًا كاملاً، ومنها ما يقترب منَ الإسلام قُربًا يجعله ذا صِبغة إسلامية، ومنها ما هو مِن صميمِ الإسلام وَلُبِّه.
فمن الناس: مَن يرى الصوم أسلوبًا صحيًّا، وعلاجًا وقائيًّا، يُبعده عنِ الأمراض، أو يكسبه مناعةً ضدَّها، فأيام رمضانَ عنده وصفةٌ طبية، يتناول حباتِها الثلاثين، في كلِّ يوم حبَّة، ولا علاقةَ له بعد ذلك بأخلاقِ الصيام، ولا بآدابِ الصيام، ولا بالحِكمة الربَّانية التي شُرِع من أجلها الصيام.
ومن الناس: مَن يرَى الصوم إمساكًا عنِ الطعام والشراب، وسائر المفطِّرات، فإنْ هو فعَل - بزعمه - فقد بَرِئت ذمَّتُه، وأدَّى الذي عليه.
وفات هذين الصِّنفين من الناس أنَّ عملَهم هذا بعيدٌ كلَّ البُعد عن الحِكمة التي كان صوْمُ رمضان مِن أجلها رُكنًا من أركان الإسلام.
آداب الصيام:
1- روى البخاريُّ ومسلِمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصِّيام جنَّة – أي: وقاية - فإذا كان يومُ صوم أحدِكم فلا يرفثْ، ولا يصخبْ، فإنْ شاتَمَه أحد أو قاتله، فليقلْ: إني صائم، إني صائم)).
2 - روى البخاريُّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن لم يدَعْ قول الزور، والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه)).
3 - روَى ابن حبَّانَ، وابن خزيمة في صحيحيهما: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليس الصيامُ منَ الأكْل والشرب، إنما الصيام منَ اللغوِ والرفث)).
الصوم نظام حياة:
مِن هذه الأحاديث الشريفة وأمثالها نُلاحِظ - أيُّها الأخ المسلم - أنَّ للصوم آدابًا رفيعة، وأنَّ له حِكمةً سامية، وأنَّ الصوم نظامُ حياة متكامل، وليس موسمًا عابرًا.
إنَّه دعوةٌ إلى كلِّ فضيلة، ورادِعٌ عن كلِّ رذيلة، وسياج دون كلِّ معصية، فلا صخبَ في حياة الصائمين، ولا شَتِيمة، ولا شِجار.
صامَتْ ألْسنتُهم، فلا كذبَ ولا بُهتان، وصامَتْ أبصارهم، فلا تقع على حرامٍ، وصامَتْ أسماعُهم عمَّا سوى الحلال، استجابة لتوجيهات قائدِهم الكريم، عليه أزْكى الصلوات، وأتم التسليم؛ ((إنَّما الصِّيام من اللغوِ الرفث)).
وهكذا نرَى الصائمين نماذجَ ربَّانية، عافتْ لذيذَ الشراب والطعام، وأقبلَتْ على الصلاة والقيام، وجادتِ ابتغاء مرضاةِ الله بالأوقات والأموال.
تسامَتْ أرواحها، وعلَتْ نفوسها، وتعلَّقت منها القلوب بما عندَ الله من نعيمٍ لا يزول، لقد رأتْ هذه الدنيا على حقيقتها، رأتْها لُقمةَ طعام فعافتْها، وشرْبةً باردة فتركتْها، أو شهوة عابِرة فتسامتْ عنها ونبذتها، ولسان الحال منها يُردِّد: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
هذه غايةُ النفوس المؤمِنة، وأمنية القلوب الصادِقة، أن تفوزَ برِضوان الله، ليس لها غايةٌ سواها، وهل هناك غايةٌ أسْمى وأغْلى من رضا الرحمن؟!
الصوم جهاد:
لذلك نجد أُمَّة الصيام، أمَّة جِهادٍ وتضحيات، أمَّة تعلَّمت صناعةَ الموت في ظلالِ القرآن، وأتْقَنت حياة المجاهدين في مدرسة النبوَّة، كلَّما ذهَب إلى ربه قائدٌ مجاهد، تلقف اللِّواءَ مِن بعده مجاهِدٌ آخَر، يبذل في سبيل الله النفس، والولَد والمال، حتى غدَا نشيد المؤمنين على الأجيال:
(الموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
نعم نحن - أُمَّةَ الصيام - ورِثْنا البطولات كابرًا عن كابر، وخلفًا عن سَلَف، فيومُ بدر كان يومَ الفرقان، فيه اندحر الشِّرْك وأهلُه أمامَ عُصبة الصائمين، وفي رمضان كان الفتح العظيم - فتح مكة - الذي فتَح للإسلام مغاليقَ القلوب، ومنيعاتِ الحصون، فانطلق الصائمون يَنشرون دينَ الله فوقَ كلِّ مكان، بعدما أعلن مؤذِّنُهم الأذان مِن فوق الكعبة (بيت الله الحرام).
ولا تزال هذه بطولاتنا حتى في العصرِ الحديث، عصر المادَّة والفساد، والانحراف والإلْحاد.
فهل لقِيَ اليهود الويلاتِ في رُبَى فلسطين، وذاقوا مُرَّ الهوان إلا مِن الأيدي المتوضئة، والنفوس الصائمة عن كلِّ ما حرَّم الله.
سلوهم فهم لا ينكرون: كم ليلة باتوها آمنين مِن كل الجيوش التي انتهتْ مسرحية قتالها بتسليم فلسطين، ولم يقلقهم إلا تلك الهجماتُ المؤمنة من شبابِ الإسلام التي كانت تدكُّ عليهم مستعمراتِهم، وتحرق حصونَهم على مَن فيها مِن الرجال، وما فيها مِن العتاد والأموال.
سلوهم فهم لا ينكرون: أليستْ تلك الهجمات المؤمِنة الصامِدة هي التي جعلتْهم يُخطِّطون لنشأة كيانات هزيلة، وحكومات عميلة مِن حولهم، حتى تقضيَ على الإسلام وشباب الإسلام؟!
نعم، هم الذين فعَلوا ذلك، وصنائعهم هم الذين نفَّذوا، ولا يزالون ينفذون لهم ما يريدون؛ لأنَّهم كلَّهم يعلمون أنه لا حياةَ لليهود مع وجودِ هذه النماذج العفَّة النظيفة، المؤمنة النقية، التي تربَّت في مدرسة الإسلام، وتحلَّت بأخلاقِ الأنبياء.
الصوم تكافل:
كما يُحقِّق الصومُ في نفوس الصائمين معانيَ الرجولة، والتضحية والجهاد، فهو كذلك يُربِّي النفوسَ على البذل والسخاء، وعلى الجود والكَرَم والعطاء.
إنَّ الغنيَّ الذي يعضُّه الجوع، ويُضنيه الظمأ في شهر رمضان - تتبدَّل مشاعرُه، ويختلف إحساسُه، ويدرك أنَّ هناك إخوانًا له يعانون طولَ العام مثلَ الذي يعانيه في رمضان، فيسارع إلى مواساتِهم، ويستجيب لنداءِ الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي يؤكِّد له أنَّ الصوم معلَّق بيْن السماء والأرض، لا يُقبل عندَ الله إلا بإخراج صدقةِ الفِطر.
وتطالعه سيرة الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجواد السخي، الذي كان في رمضانَ أجودَ بالخير من الرِّيح المرسَلَة، عندَها تهون في نفسه الأموال، ويتلفَّت إلى مَن حوله مِن المحتاجين: يواسيهم، ويؤازرهم، ويقدِّم لهم ما يُصلِح حالَهم، ويسدُّ حاجتَهم من غير مَنٍّ ولا أذًى، إنما هو واجبُ الأُخوَّة التي فرَضَها الإسلام، وحقَّق معانيَها الصيام، وبذلك نجد المجتمع الإسلامي قد تحقَّق التكافل بيْن أبنائه، وقامتْ حياتهم على المحبَّة، والمودَّة والإخاء.
خاتمة:
يا شباب الإسلام: إذا صام الناسُ عنِ الطعام والشراب وسائر المفطِّرات، فاعلموا أنَّ صومكم يجب أن يكون كصومِ الأنبياء والصِّدِّيقين، وإذا رأى الناسُ في رمضان موسمًا لألوان الطعام والشراب، فلا بدَّ أن يكونَ رمضان عندَكم موسمًا للطاعات والعبادات، وزيادة القُرْب من الله.
وإذا ما سَهِر الناس في رمضانَ مع وسائلِ الإعلام - غثِّها وسمينها - ليناموا بعدَها ما طال مِن النهار، فإنَّ ليلَكم يجب أن يكون قيامًا بيْن يدي الله - تعالى - ضارعين خاشعين، متبتلين قانتين، تطلبون مِنَ الله نصرَ دِينه، وإعزازَ شريعته، والأخْذَ بأيدي إخوانكم الذين يقاومون الظلمَ والطغيان، ويجب أن يكون نهارُكم عملاً دائبًا، وسعيًا حثيثًا؛ لتبلغوا مرضاةَ ربكم، فما شهر رمضان بشهرِ كسَلٍ، ولا نومٍ ولا خنوع.
إنَّه شهر الجهاد، فيه كانتْ غزوة بدر، وفيه كان الفتْح العظيم - فتح مكة - وغير ذلك مِن الغزوات.
فهنيئًا لكم صومكم، وهنيئًا لكم صلاتكم وقيامكم، وثِقُوا بأنَّ الله معكم: ناصُركم، ومؤيِّدُكم ما دمتم بنورِ كتابه مستنيرين، وبهَدْيِ نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم – متمسِّكين.
فاصبِروا وصابروا، ورابطوا واتقوا الله؛ لعلَّكم تفلحون
من الحكم والفوائد للصيام
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه لنفسه والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأشهد أن أفضل خلق الله وأحبهم إلى الله، وأهداهم إليه سبيلًا، عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الصوم مظهر من مظاهر الدين الحنيف، ودليل قاطع على القيام بأمر الله عن محبةٍ ورضىً وانقيادٍ وخضوعٍ تامٍ لأوامر الله تبارك وتعالى، ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ولله سبحانه الحكمة البالغة.
وقد فرض الله على المسلمين الصيام لحكم عديدة، كلها في صالح الإسلام والمسلمين، فمنها أن الصيام يقوي النفس والإرادة والعزيمة، وذلك أن الإنسان متى امتثل أمر الله تبارك وتعالى واستطاع أن يغالب شهواته فيسيطر عليها، ويترك المشارب الحلوة والمآكل اللذيذة وغير ذلك، امتثالًا لأمر الله واحتسابًا للثواب عنده، عندها تُربى عند الصائم إرادة قوية صارمة، وصار عبدًا لربه، لا عبدًا لشهواته ومطامعه، واقتدر على امتلاك زمام نفسه وإرشادها وتوجيهها الوجهة الصالحة.
قال الشاعر:
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى
مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ
فليس المقصود من الصيام في الإسلام هو إتعاب النفس وتعذيبها، كما يتوهمه بعض الناس، وإنما المقصود منه تربيتها وتزكيتها وتعليمها الصبر عن الشهوات، وترويضها على الطاعات، كما روى ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصيام نصف الصبر)).
فالله غني عنَّا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا، ولإعداد نفوسنا للسعادة والتقوى، والفوز بلقائه، ومجازاته الجزاء الأوفى، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَِنْفُسِهِمْ ﴾ [الروم: 44].
وليست فوائد الصيام مقصورة على الفوز بلقاء الله في الآخرة فقط؛ بل له من الفوائد الكثيرة في الدنيا ما لا يحصى:
فمن فوائده: أن الذي يصوم إيمانًا واحتسابًا لا يُنتظر منه أن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يمسك بأعراضهم أو يخونهم في أماناتهم، فلا يسهل عليه أن يراه الله على باطلٍ أو فعلٍ حرام.
ومن فوائده: أن الصيام أقوى مربٍّ للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ كما قال مفسر القرآن البيضاوي: (إن الصيام: الإمساك عن جميع ما تهوى النفس مما لا يرضي الله).
ومن فوائده: أن يتذكر الأغنياء والموسرون أنَّ لهم إخوانًا فقراء ليواسوهم وليعطفوا عليهم، وذلك بعد أن يذوقوا ألمه، ويعرفوا الجوع وحرارته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع إنه بئس الضجيع)).
ومن فوائد الصيام: إنه يَصِحُّ الأبدان ويقويها، وينشفها من الرطوبة، وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صوموا تصحوا))، وقال: ((الصوم جُنَّة))، أي: يستر صاحبه ويقيه من الأمراض والآثام والمضار والمعاصي.
جعلنا الله ممن وفقوا في صيام هذا الشهر المبارك وَقَبِلَهُ منا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لنا جميعًا ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي دعى إلى الإحسان، وحرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، ورسولًا للثقلين، وجعل محبته فرضًا عليهم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الله افترض علينا الصوم، وجعل كل واحد منا أمينًا على نفسه رقيبًا عليها، فلاحظوا أنفسكم وراقبوها، واحذروا الغيبة والنميمة، والنظر إلى المحرمات، وقول الزور.
فقد قال جمع من العلماء منهم الأوزاعي: ((إن الغيبة والنميمة والكذب تفطر الصائم، وتوجب قضاء ذلك اليوم الذي اغتاب فيه، أو نمَّ فيه، أو كذب فيه))، وقال الإمام ابن حزم: ((إن الصائم يفطر بأي معصية يرتكبها حالة كونه ذاكرًا لصومه متعمدًا المعصية)).
ويصدق ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
وقال أحد العلماء - فيمن يعصي وهو صائم -: ((أنه كمن يبني بيتًا ويهدم بلدًا كاملًا)).
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا في عبادته، واعلموا أن الصوم لله، وأن جزاءه الجنة، فاجتنبوا الغيبة والنميمة والكذب والمعاصي؛ فإنها منقصات للصوم، محبطات لثوابه.
فليحذر كل إنسان منَّا أن يكون حظه من صيامه الجوع والعطش، أو أن يكون كمن يبني بيتًا، ويهدم بلدًا كاملًا.
فاتقوا الله، فإن خير الزاد التقوى، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن أحسن الحديث كتابه، فاقرأوه واستمعوه، ولاحظوا معانيه، فقد جمع وأوعى، ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
وعليكم بسنة نبيكم؛ فإنها أصدق السنن وأحسنها، فاتبعوا أوامره؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واجمعهم على الحق، اللهم ولِّ علينا خيارنا، وانصر أمتنا وسلطاننا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأيد هذا الدين، بمن تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفرج كربهم، ويسر لهم أمورهم، وقوهم وانصرهم على أعدائهم؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90،91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يبارك لكم ويزدكم، ولذكر الله أكبر، والله مطلع على ما تفعلون.