ارجوا اخذ نسخة احتياطية من القالب ندخل في الموضوع بدون إطالة تفضلو ا الكود رمز Code:

الثلاثاء، 6 نوفمبر 2018

أحكام الصيام




 أحكام الصيام




       الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا اللهم علماً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم آمين، ثم أما بعد؛

       الصيام ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يكتمل إسلام المرء إلا بها، كتبه الله عز وجل على المسلمين كما كتبه على من سبقهم من الأمم. أياماً معدوداتٍ يمتنع فيه المسلم عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله تبارك وتعالى. فهو من أعظم الطاعات التي يُتقرَّب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ويثاب المسلم عليه ثواباً لا حدود له، وبه تغفر الذنوب، وبه يقي الله العبد من النار، وبه يستحق العبد دخول الجنان من باب خاص أُعدَّ للصائمين، وبه يفرح العبد عند فطره وعند لقاء ربه.

ويعد الصيام مدرسة صحية وتربوية واجتماعية، مبنية على الصبر، ومخالفة النفس، وكسر الشهوة واحترام النظام، والتزام الجماعة والإحسان إلى الفقراء، ومواساة المساكين والمحتاجين، وتطهير الروح والانشغال بلذة العبادات من صلاة وذكر، وقيام واعتكاف وتلاوة للقرآن الكريم .

قال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة عن مكانة الصوم وحِكَمه السامية: " أما الصوم فناهيك به من عبادة تكفّ النفس عن شهواتها وتُخرجها عن شبَه البهائم إلى شبه الملائكة المقرّبين، فإنّ النفس إذا خُلّيت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كُفّت شهواتها لله، ضُيِّقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها، محبّة له، وإيثاراً لمرضاته وتقرُّباً إليه، فيدع الصائم أحبّ الأشياء إليه وأعظمها لُصوقاً بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة، ولا تُتصوّر حقيقتها إلا بترك الشهوة لله ... وأيُّ حُسنٍ يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسِر الشهوة وتقمع النفس وتُحيي القلب وتُفرحه، وتُزهِّد في الدنيا وشهواتها، وتُرغِّب فيما عند الله، وتُذكّر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم وأنهم قد أُخِذوا بنصيب من عيشهم فتُعطِّف قلوبهم عليهم، ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا  له شكراً ".

ونظراً لمكانة الصيام في الإسلام وفرضيته، كان واجباً على كل مسلم أن يعرف الأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الركن العظيم، حتى لا يقع فيما يُبطل صيامه من حيث لا يعلم؛ ولذا آثرت أن أعد دراسة يسيرة مبسطة تجمع أحكام الصيام، لتكون دليلاً في متناول عامة المسلمين وطلبة العلم المبتدئين، أسميتها: (دليل الأنام في أحكام الصيام)، سائلاً الله عز وجل الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعله هذا العمل المتواضع في ميزان حسناتنا وحسنات مشايخنا، وأن يكون علماً يُنتفع به بإذن الله تعالى.

      وسنتولى تقسيم هذه الدراسة إلى عدة فصول، وذلك على النحو التالي:

الفصل الأول: مفهوم الصيام وفضائله وحكمته.

الفصل الثاني: مراتب الصيام وأقسامه.

الفصل الثالث: شروط الصيام.

الفصل الرابع: أركان الصيام وسننه.

الفصل الخامس: مباحات الصيام ومكروهاته.

الفصل السادس: مبطلات الصيام.

الفصل السابع: مسائل مهمة متعلقة بالمفطرات.

الفصل الثامن: مسائل مهمة متعلقة بقضاء الصيام.

الفصل الأول

مفهوم الصيام وفضائله وحِكْمَته

المبحث الأول: تعريف الصيام وفضائله:

أولاً: تعريف الصيام:

يعرف الصيام لغةً: الإمساك والكف عن الشيء.

ويعرف شرعاً: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله تعالى.

ثانياً: فضائل الصيام:

إضافة الصيام لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم أجره:

عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " (متفق عليه).

وفي رواية لمسلم: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي ".

وقد ذكر أهل العلم أوجه كثيرة في بيان معنى الحديث وسبب اختصاص الصوم بهذا الفضل، فقيل: أن الصيام لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره. وقيل: أن الله سبحانه وتعالى ينفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وقيل: أن الصيام أحب العبادات إلى الله والمقدم عنده سبحانه وتعالى. وقيل: أنّ إضافة الصوم لله تعالى هو إضافة تشريف وتعظيم كما يقال: "ناقة الله" و"بيت الله". وقيل: أنّ الصيام لم يعبد به غير الله تعالى.

الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى:

يعد الصيام من أفضل الأعمال، فهو من الأعمال الصالحة التي لا عدل لها، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني).

الصيام جُنَّة من شهوات الدنيا وعذاب الآخرة:

الصيام جُنَّة، أي: وقاية في الدنيا والآخرة، فيقي المسلم في الدنيا من الوقوع في الشهوات والمعاصي، ويقيه في الآخرة من العذاب، فهو حصن حصين في الآخرة من النار. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الصِّيَامُ جُنَّة، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ " (رواه البخاري). وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: " الصيامُ جُنَّةٌ وحِصْنٌ حصينٌ مِنَ النارِ " (رواه أحمد وحسنه الألباني).

وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: " الصِّيامُ جُنَّةٌ من النَّارِ، كَجُنَّةِ أحدِكمْ من القِتالِ " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني). ومعنى هذا الحديث: أن الصيام درع يقي الصائم من المعاصي في الدنيا ومن النار في الآخرة كما يقي الدرع المحارب حين القتال فيمنعه من طعنات العدو ويحميه من الموت بإذن الله تعالى.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " (رواه البخاري ومسلم).

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" (رواه الترمذي وقال عنه الألباني حسن صحيح).

وعنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَ اللَّهُ مِنْهُ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ مِئَةِ عَامٍ " (رواه النسائي وحسنه الألباني).

يتحقق بالصيام أجر الصبر:

فيجتمع في الصيام أنواع الصبر الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقداره سبحانه وتعالى. فهو صبرٌ على طاعة الله؛ لأن الصائم يصبر على هذه الطاعة ويفعلها. وصبرٌ عن معصية الله سبحانه وتعالى؛ لأن الصائم يتجنب المعصية حال صيامه. وصبرٌ على أقدار الله تعالى؛ لأن الصائم يصيبه ألم العطش والجوع والكسل وضعف النفس؛ فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامعٌ بين الأنواع الثلاثة، وقد قال الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10(.

الصيام كفارة للخطايا والذنوب:

إن الصيام من الأعمال التي يكفر الله بها الخطايا والذنوب، فعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " (رواه البخاري ومسلم).

ومعنى هذا الحديث: الإنسان يبتلى بماله وولده وأهله وبجاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارةً يلهيه الاشتغال بهم عما ينفعه في آخرته، وتارةً يقصر في الحق الواجب عليه تجاههم، وتارةً قد يقع في ظلمهم ويأتي إليهم ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيُسأل عنه ويُطالب به. فإذا حصل للإنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، فيكون الصيام من إحدى الطاعات التي تكفر عنه ذنوبه.

الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة:

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصِّيامُ والقرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ، يقولُ الصِّيام: " ربِّ إنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ بِالنَّهارِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، ويقولُ القُرْآن: ربِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، فيشَفَّعَانِ " (رواه أحمد وصححه الألباني).

الصيام سبب لدخول الجنة:

فمن أسباب دخول الجنة الصيام، وإن أحد أبوب الجنة الثمانية " باب الريان "، وهو باب يدخل منه الصائمون الجنة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد " (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية للبخاري: " في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون ".

الصيام من الأعمال التي وعد الله صاحبها بالمغفرة والأجر العظيم:

فقال سبحانه وتعالى: " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " (الأحزاب:35).

للصائم فرحتان:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قاٍل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ " (رواه البخاري ومسلم).

فيفرح الصائم إذا أفطر بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر، وقيل: إن فرحه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه.

وكذلك يفرح الصائم بصومه عند لقاء ربه؛ لما يجد من جزاء عظيم وثواب كبير، وقيل: الفرح الذي عند لقاء ربه إما لسروره بربه أو بثواب ربه.



خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك:

إن من أكبر الدلائل على عظم فضل الصيام، أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تبارك وتعالى من رائحة المسك، والخلوف هو تغير رائحة الفم بسبب الصوم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نَفْسُ محمد بيده لخلوفُ فم الصَّائم أطيب عند الله من ريح المسك" (رواه البخاري ومسلم).

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد: " يريد أزكى عند الله تعالى وأقرب لديه وأرفع عنده من رائحة المسك ". وعلل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك بقوله: " لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له, وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله ".

دعاء الصائم مستجاب:

إن من فضائل الصيام أن دعاء الصائم مستجاب، فعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثُ دَعَواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المظلُومِ، ودعوةُ المسافِرِ " (رواه البيهقي والطبراني وصححه الألباني).

الصيام يطهر القلب:

إن صيام شهر رمضان وصيام ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَرَ الصدر أي الغل والحقد والغش ووساوس الشيطان وما يحصل في القلب من كدرة أو قسوة، فعَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَذْهَبْنَ بِوَحَرِ الصَّدْرِ " (رواه أحمد والبيهقي والبزار وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ" (رواه النسائي وصححه الألباني).

جعل الله تعالى الصيام من الكفارات لعظم أجره:

فجعل الله الصيام من الكفارات لأمور كثيرة، منها:

1.    كفارة فدية الأذى في الحج أو العمرة، فقال تعالى: "فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ" (البقرة:196).

2.    كفارة المتمتع إذا لم يجد الهَدْي في الحج، فقال تعالى: "فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ" (البقرة:196).

3.    كفارة القتل الخطأ، فقال تعالى: "فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" (النساء:92(.

4.    كفارة اليمين، فقال تعالى: "فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" (المائدة:89).

من خُتم له بصيام يوم دخل الجنة:

1.    فعَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :" مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " (رواه أحمد وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: " من ختم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة " (رواه الأصبهاني وصححه الألباني).

2.    قال الإمام المناوي رحمه الله في كتابه فيض القدير: " أي من ختم عمره بصيام يوم بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب ".

3.    الصيام سبيل إلى غرف الجنة:

4.    إن المداوم على الصيام له أجر عظيم عند الله تبارك وتعالى، ومن الثواب الكبير الذي يُكافأ به (غرف الجنة)، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ " (رواه الترمذي وصححه الألباني).



المبحث الثاني: الحكمة من تشريع الصيام:

لم يفرض علينا الله تعالى الصيام في شهر رمضان من أجل أن نجوع ونعطش ونتعب، وإنما هناك مقاصد وأهداف وحِكَم كثيرة لهذه العبادة، ولا تدرك عقولنا المحدودة إلا بعض هذه المقاصد والأهداف والحكم، ومنها:

1.    الصيام وسيلةٌ لتحقيق تقوى الله عز وجل:

2.    إن أهم مقصد من مقاصد الصيام تحصيل تقوى الله عز وجل، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:183(.

3.    فالصائم الذي يمتنع عن المباحات أثناء صيامه من طعام وشراب وجماع، تتربى نفسه على الامتناع عن المحرمات في كل وقت وحين من باب أولى.

4.    وكذلك يحقق الصيام للمسلم تقوى الله تعالى من خلال تعويده على الإكثار من الطاعات، فالصائم خصوصاً في رمضان يجتهد في القيام وقراءة القرآن والذكر وصلة الأرحام وغيرها من الطاعات، فبذلك تتعود النفس على الطاعات ويسهل الاستمرار عليها بعد رمضان، ولكن ذلك يحتاج إلى عزيمة وصدق.



إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه:

فعندما يصوم المسلم يمتنع عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، وحينئذ يتذكر نعمة الله تعالى عليه بوجود هذه النعم وتيسيرها له حال الفطر، فيشكر الله تعالى على نعمه التي لا تحصى، قال تعالى: " وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " (إبراهيم:34).

تذكير الصائم بإخوانه الفقراء والمساكين:

فإن الصائم إذا شعر ألم الجوع والعطش يتذكر إخوانه الفقراء والمساكين، فيرحمهم ويعطف عليهم ويمد يده بالعون والإحسان إليهم، قال تعالى: " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ " (النساء:36).

قال الإمام الكمال بن الهمام رحمه الله في كتابه فتح القدير: " الصوم ثالث أركان الإسلام بعد &artshow-86-211373.htm#171;لا إله إلا الله، محمد رسول الله» والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً أشياء:

.. ومنها: كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين، فإنَّه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر مَنْ هذا حالُه في عموم الأوقات، فتسارع الرقة عليه ".

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه لطائف المعارف: " وسئل بعض السلف: لِمَ شُرِع الصيام؟ ، قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع ".

الصيام فيه قهر للشيطان:

ذلك أن وسيلة الشيطان لإغواء بني آدم هي الشهوات، وتقوى هذه الشهوات بالأكل والشرب، والصيام يضيِّق مجاري الدم، فتضيق مجاري الشيطان، فتسكن وساوسه ويُقهر بذلك، فعن صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ " (رواه البخاري).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى: " ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين -الذي هو الدم- وإذا صام ضاقت مجاري الشياطين، فتنبعث القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات".

وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف: " الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان ".

الصيام يكسر حدة الشهوة:

إن الصيام يكسر حدة الشهوة، وبالمداومة عليه تحصل لدى المسلم الاستقامة وغض البصر والبعد عن المحرمات ومجاهدة النفس، ولذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الأعزب الذي لا يستطيع الزواج بالصيام، فعن عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " (رواه البخاري ومسلم).

وإن أثر الصيام في كسر حدة الشهوة قد لا يحدث في باديء الأمر، بل بعد مدة من الصيام، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: " الصَّوْمَ قَامِع لِشَهْوَة النِّكَاح. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ فِي تَهْيِيجِ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ فَإِذَا تَمَادَى عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ سَكَن ذَلِكَ. وَاللَّه أَعْلَمُ ".

ويقول الشيخ ابن جبرين رحمه الله في شرحه لعمدة الأحكام: " وقد ذكر لنا كثير من الشباب أنهم يكثرون الصوم ومع ذلك لم يجدوا خفة في الشهوة، بل الشهوة لا تزال عندهم قوية. وسبب ذلك أولاً: قوة الشهوة في بعض الشباب، حيث تكون الشهوة عندهم قوية جداً.

ثانياً: أن هناك مقويات لها، فلا شك أن كثرة المآكل وتنوع الأطعمة وكثرة اللحوم وأكل الفواكه وما أشبهها مما يقوي الشهوة، والذي يريد أن تنكسر حدة الشهوة عليه أن يقلل من الأكل عند الإفطار وفي السحور وفي الليل ".

الصيام مدرسة خلقية:

إن الصيام مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزغات الشيطان التي قد تلوح له، ويعود المسلم على خلق الصبر، ويعلمه النظام والانضباط، ويدربه على الأمانة، ومراقبة الله في ظاهره وباطنه، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله،

وينمي عاطفة الرحمة والأخوة والشعور بالتضامن والتعاون بين المسلمين.

إضافة إلى أن الصيام يكسب المسلم عفة اللسان؛ لأن الصائم يُمسك عن الرفث والصخب، ومجازاة من سبه، ومجاراة من سفه عليه، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ... وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " (رواه البخاري ومسلم(. وفي رواية أخرى: " الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ " (رواه البخاري ومسلم).

فائدة: جاء في الحديث النهي عن الرفث والصخب والجهل، والرفث في الحديث يعني الكلام الفاحش وتأتي الرفث بمعنى الجماع، وأما الصخب فهو الخصام والصيام، وأما الجهل فهو فعل أفعال الجهال من السفه أو الاعتداء على الغير بالقول أو بالفعل.

الصيام يوحد مشاعر المسلمين:

إن الصيام يوحد مشاعر المسلمين، فالكل صائم وفق منهج تربوي واحد، من أقصى الأرض إلى أدناها، غنيها وفقيرها، أبيضها وأسودها، عربها وعجمها، الكل ممتثل لأمر الله تعالى.

الصيام يكسب البدن الصحة والقوة:

أثبت علم الطب أن للصيام فوائد صحية كثيرة، فهو يعمل على إزالة السموم من الجسم، ويريح الجهاز الهضمي، ويساعد على علاج الالتهابات، ويعمل على خفض مستويات السكر في الدم، ويساعد على زيادة حرق الدهون، وهو مفيد لمرضى ارتفاع ضغط الدم، ويعزز الجهاز المناعي، ويعمل على تنقية الكلى والمسالك البولية، ويساعد على خفض الوزن الزائد، ويقي الجسم من الحصوات والرواسب الكلسية والزوائد اللحمية والأكياس الدهنية، ويحفظ أنسجة الجلد ويقي من الأمراض الجلدية.

وأثبتت بعض الدراسات أن للصيام تأثيراً إيجابياً على تنقية الجسم من الخلايا الورمية، كما أن بعض الأطباء في الغرب يستغل الصيام كوسيلة لعلاج بعض الأمراض كأمراض القلب، والتهاب المفاصل، والربو، والقرح، وبعض أمراض الجهاز الهضمي: مثل التهاب المرارة، ومرض القولون العصبي، وبعض الأمراض الجلدية.

وقد لخص الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) حِكَم ومقاصد عظيمة للصيام، فقال: " لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية، لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبولِ ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوعُ والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجاري الشيطانِ من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم ".


الفصل الثاني

مراتب الصيام وأقسامه

المبحث الأول: مراتب الصيام:

قسم الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه (إحياء علوم الدين) الصيام إلى ثلاث مراتب:

أولاً: صوم العموم: وهو كفّ البطن والفرج عن الشهوات فقط دون أن تصوم الجوارح والقلب، فترى صاحب هذه المرتبة يصوم عن المباحات وربما يقع في المحرمات من النظر إلى ما حرم الله والغيبة والنميمة والكذب وقول الزور وغيرها من الآثام.

ويخشى أصحاب هذه المرتبة أن يدخلوا تحت حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله r قال: " رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ" (رواه أحمد وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: " رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ " (رواه ابن ماجه والنسائي وصححه الألباني).

فمن لم تصم جوارحه قبل بطنه وفرجه فليس لله حاجة في صومه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " (رواه البخاري).

ثانياً: صوم الخصوص: وهو كفّ البطن والفرج عن الشهوات، وكذلك كف النظر واللسان واليد والرِّجل والسمع والبصر وسائر الجوارح عن الآثام.

ثالثاً: صوم خصوص الخصوص: وهو كف البطن والفرج عن الشهوات، وكف الجوارح عن الآثام، وصوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المُبعِدَة عن الله تعالى، وكَفّهُ عما سوى الله تعالى بالكُليّة، وهذه أعلى مرتبة ينبغي على كل مسلم أن يحرص على تحقيقها.

المبحث الثاني: أقسام الصيام:

ينقسم الصيام إلى أربعة أقسام:

أولاً: الصيام الواجب.

ثانياً: الصيام المستحب.

ثالثاً: الصيام المكروه.

رابعاً: الصيام المحرم.

أولاً: الصيام الواجب:

وينقسم الصيام الواجب إلى قسمين:

1.    صيام واجب بأصل الشرع: وهو صيام شهر رمضان، وسنفصل في هذا القسم بإذن الله تعالى فيما سيأتي.

2.    صيام واجب بسبب من المكلف: وهو صيام الكفارات والنذور، وهذا القسم سنتحدث عنه بإذن الله في دراسة مستقلة تتناول فقه الأيمان والنذور والذبائح بإذن الله تعالى.



صيام شهر رمضان:

صيام شهر رمضان هو ركن من أركان الإسلام الخمسة، فُرض على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه المجموع: "صام رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنين؛ لأنه فرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ".

سبب تسميته:

جاء في تسمية رمضان بهذا الاسم عدة أقوال عند أهل اللغة، أشهرها:

1.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأنه غالباً ما يصادف زمن الرمضاء، وهو الذي يشتد فيه الحر في جزيرة العرب، فسمي بذلك من الرمض وهو شدة الحر.

2.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأن الشهور سميت بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر شدة الحر.

3.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لارتماض الصائمين فيه من حر الجوع ومقاساة شدته.

4.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس.

5.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها بالأعمال الصالحة، فرمضان مصدر رمض إذا احترق.

6.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي يغسلها بالأعمال الصالحة. وقالوا هو مأخوذ من الرميض، وهو السحاب والمطر في آخر القيظ وأول الخريف، سمي رميضاً لأنه يدرء سخونة الشمس، وهكذا رمضان يغسل الأبدان من الآثام.

7.    سمي هذا الشهر رمضان؛ لأن العرب كانوا يرمضون أسلحتهم فيه أي يحشدونها ويجهزونها استعدادا للحرب في شهر شوال.

حُكْمُه:

صيام رمضان واجب على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم، دلَّ على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

1.    من الكتاب: قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة:183(.

2.    من السنة: حديث طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ " (رواه البخاري ومسلم).

3.    وحديث عبد الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " (رواه البخاري ومسلم).

4.    أجمع المسلمون على أن الصوم ركن من أركان الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة بحيث يكفر مُنكره، وأنه لا يسقط عن المكلف إلا بعذر من الأعذار الشرعية المعتبرة التي سيأتي ذكرها.

حكم ترك صيامه:

من ترك صوم شهر رمضان جاحداً لفرضيته فهو كافرٌ بإجماع أهل العلم، ومن ترك صوم شهر رمضان متعمداً متكاسلاً، فقد أتى كبيرةً من كبائر الذنوب ويجب عليه القضاء، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

ولا بد من الإشارة هنا إلى عظم ذنب من يفطر في رمضان متعمداً، فعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلا وَعْرًا، فَقَالا لِي: اصْعَد، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أُطِيقُهُ، فَقَالا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ؟ ، قَالَ: هذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّار، ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟، فَقِيلَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ " (رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الألباني).

معاني الكلمات الصعبة في الحديث:

(ضَبْعَيَّ: عضديّ. عُواء: أي صُراخ وصياح. سواء الجبل: أي وسط الجبل. العُرقوب: أي العَصَب الذي فوق مؤخرة قدم الإنسان. الشَّدْق: أي جانب الفم مما تحت الخد. يفطرون قبل تحلة صومهم: أي يفطرون قبل أن يحل الفطر لهم بغروب الشمس) .

قال الإمام الألباني رحمه الله معلقاً على هذا الحديث في كتابه السلسلة الصحيحة: " أقول: هذه عقوبة من صام ثم أفطر عمداً قبل حلول وقت الإفطار، فكيف يكون حال من لا يصوم أصلاً؟! نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة ".

وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر: "الكبيرة السادسة إفطار يوم من رمضان بلا عذر"، وقال في موضع آخر من الكتاب: "عند المؤمنين مقرر: أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عرض أنه شر من المكَّاس –السارق أو قاطع الطريق ويشمل كل من يستولي على المال بغير وجه حق- والزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال".

قال الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر: " الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ تَرْكُ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ، وَالْإِفْطَارُ فِيهِ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ".

مراحل تشريعه:

لم يفرض صيام شهر رمضان على درجة واحدة، بل مر فرض صيام شهر رمضان بثلاث مراحل، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "أحيل الصيام ثلاثة أحوال" (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني). وقال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد: " وكان للصوم رتب ثلاث: إحداها: إيجابه بوصف التخيير، والثاني: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالمرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة ".

ونفصل المراحل الثلاث على النحو التالي:

المرحلة الأولى: التخيير بين صيام شهر رمضان، أو دفع فدية مكان كل يوم يفطر فيه يطعم مسكيناً، قال تعالى: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ " (البقرة:184). ويقصد بـــ "يطيقونه" في هذه المرحلة: أي يقدر على الصيام ولم يصم.

عن سَلَمَةَ بنِ الأكْوعِ رضي الله عنه قال: " لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا " (رواه البخاري). يقصد بالآية التي بعدها: قوله تعالى: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " (البقرة:185(.

المرحلة الثانية: وجوب الصيام على المسلم البالغ العاقل الصحيح المقيم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس، كان للصائم أن يأكل ويشرب ما لم ينم، فإن نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى غروب شمس اليوم التالي، وكان في هذه المرحلة حرج شديد على المسلمين، وما يدلل على ذلك ما جاء في حديث الْبَرَاءِ بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ سورة البقرة آية 187 ، فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل سورة البقرة آية 187 " (رواه البخاري).

المرحلة الثالثة: وجوب صوم شهر رمضان على الحالة التي نحن علينا الآن، والحديث السابق للبراء بن عازب رضي الله عنه يشير إلى هذه المرحلة، ويقول الله تعالى: " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" (البقرة:185). ويقول أيضاً: " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ " (البقرة:187).

وبقي تحت التّخيير الّذين لا يُطيقون صيامه، أو يُطيقونه مع شدّة وضرر، فعن عبد الله بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنّه لما قرأ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قال رضي الله عنه: " لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا " (رواه البخاري). ويقصد بـــ "يطيقونه" في هذه المرحلة: أي يشق عليهم.



قال الإمام ابن القيّم الجوزية رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السّعادة"  في بيان الحكمة من هذا التدرّج في فرض الصيام: " لمّا كان -أي: الصّوم- غيرَ مألوفٍ لهم، ولا معتادٍ، والطِّباعُ تأباه؛ إذ هو هجرُ مألوفِها ومحبوبِها، ولم تذقْ بعدُ حلاوتَه وعواقبَه المحمودةَ، وما في طيِّه من المصالح والمنافع، فخُيِّرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلمّا عرَفَت علّته وألِفَتْه، وعرفت ما تضمّنه من المصالح والفوائد، حُتِم عليها عيناً، ولم يقبل منها سواه، فكان التّخيير في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصّوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنّ المصلحة فيه في ذلك الوقت ".



مسألة: هل فُرض على المسلمين صياماً قبل رمضان؟

اختلف أهل العلم في ذلك على عدة أقوال:

القول الأول: لم يفرض على المسلمين صياماً قط قبل رمضان، وهذا قول جمهور العلماء، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: " ذهب الجمهور –وهو المشهور عند الشافعية– إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان ".

القول الثاني: فُرض على المسلمين قبل رمضان صيام عاشوراء ثم نُسخ هذا الحكم بعد فرض رمضان، وهذا قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

وقد كانت قريش تصوم عاشوراء وتعظمه وتستر فيه الكعبة، وكان الرسول r يصومه دون أن يأمر أحداً بصيامه، ويقول القرطبي رحمه الله في صيام قريش لعاشوراء في الجاهلية: " لعلهم كانوا يستندون في صومه: إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل، صلوات الله وسلامه عليهما؛ فإنهم كانوا ينتسبون إليهما، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما ".

وحينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، وبعد مضى فترة من قدومه رأي صيام اليهود لعاشوراء، فصامه وأمر المسلمين في السنة الثانية من الهجرة بصيامه. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ الْفَرِيضَةَ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ " (رواه البخاري ومسلم).

ولكن في نفس العام لما فرض رمضان، أصبح صيام عاشوراء سنة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء : " مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ " (رواه البخاري ومسلم).

القول الثالث: فُرض على المسلمين قبل رمضان صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومن الذين قالوا بذلك عطاء وقتادة رحمهما الله تعالى.

واستدل عطاء رحمه الله على ذلك بقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ} [البقرة:183،184]. فقال: " كان عليهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يسم الشهر أياماً معدودات، قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهر رمضان ".

وعن قتادة رحمه الله قال: " قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قبل أن ينزل رمضان، صوم ثلاثة أيام من كل شهر ".

وضعف الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره قول عطاء وقتادة فقال: " عن عمرو بن مرة قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: حدثنا أصحابنا:  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعاً لا فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان ... وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله (أياما معدودات): أيام شهر رمضان؛ وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية ، أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات ".

فضله:

لقد خص الله شهر رمضان على غيره من الشهور بفضائل عديدة، منها:

1.    أن الأجر فيه لا ينقص وإن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً: فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضان وذو الحجة " (رواه البخاري ومسلم). وسمي رمضان عيد لأنه يعقبه العيد، ومعنى الحديث أن شهرا رمضان وذي الحجة لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، ولا يعني أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوماً، فجاء في حديث صحيح أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً، فعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا " (رواه البخاري).

2.    أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " (رواه البخاري ومسلم). ومعنى "إيماناً" أي إيماناً بأن الله شرعه وفرضه، وتصديقاً بأن الله رتب عليه الأجر العظيم. "واحتساباً" أي مخلصاً فيه ومحتسباً للأجر الذي أعده الله تعالى للصائمين.

3.    وقد ثبت بدليل آخر أن صيام شهر رمضان يكفر الذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " (رواه مسلم).

4.    أن صيامه من أسباب دخول الجنة: فعن جابر رضي الله عنه: " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم " (رواه مسلم).

5.    أن من يشهد رمضان ويجتهد فيه تعلو درجته في الجنة على الشهيد الذي استُشهد قبل رمضان: فعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ (وهو حَيِّ من قُضَاعَةَ) قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا, فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ, فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ, ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ, قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ, إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ, فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا, ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ, ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ, فَقَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ, فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ, فَقَالَ: "مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ", فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ, وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً ", قَالُوا: بَلَى, قَالَ: "وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ, فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ" , قَالُوا: بَلَى, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني).

6.    إذا دخلت أول ليلة منه فتحت أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتُسلسل وتُكبَّل فيه الشياطين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين " (رواه البخاري ومسلم).

7.    وفي رواية أخرى: " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة " (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

8.    إن لله في رمضان في كل ليلة عتقاء من النار: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة" (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

9.    وعنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ " (راوه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني).

10.                       الدعاء مستجاب في رمضان: فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة " (رواه أحمد وصححه الألباني).

11.                       وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاثُ دَعَوَاتٍ لا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ" (رواه البيهقي وحسنه الألباني).

12.                       أنه شهر الصبر: فإن الصبر لا يظهر في شيء من العبادات كظهوره في الصيام، وقد سمى النبي شهر رمضان بشهر الصبر، فعَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَذْهَبْنَ بِوَحَرِ الصَّدْرِ " (رواه أحمد والبيهقي والبزار وصححه الألباني).

13.                       أنه أنزل الله فيه القرآن: فقال الله تعالى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " (البقرة:185). وقال أيضاً: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " (القدر:1). وقال سبحانه: " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ " (الدخان:3).

14.                       فيه ليلة القدر: فمن وفق لها فكأنما عبد الله أكثر من ألف شهر (ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر)، قال تعالى: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ " (القدر:3).

15.                       العمرة في رمضان تعدل حجة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله r لامرأةٍ من الأنصار: " مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ [بعيران]، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا [زوجها] وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ [نسقي عليه] الأرض، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً " (رواه البخاري ومسلم).

16.                       وفي روايةٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية: ما منعك من الحج؟ قالت: أبو فلان - تعني زوجها - كان له ناضحان حج على أحدهما والآخر يسقي أرضاً لنا. قال: فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي " (رواه البخاري ومسلم).

أحاديث مشهورة لكنها ضعيفة أو موضوعة:

يردد الكثير من المسلمين، بل حتى من الوعاظ أحاديث بخصوص شهر رمضان وفضائله إلا أنها ضعيفة أو موضوعة، نذكر أهمها:

حديث (صوموا تصحوا):

وهو من حيث المعنى صحيح، إلا أنه حديث ضعيف، ضعفه العراقي، والمناوي، والعقيلي، والألباني. وقال عنه الصاغاني والفتني والشوكاني حديث موضوع.

حديث (أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار):

وهذا الحديث قال عنه الإمام العقيلي في الضعفاء الكبير: لا أصل له، وقال عنه الإمام الألباني في صحيح الجامع: حديث ضعيف جداً، وقال عنه  في السلسلة الضعيفة: حديث منكر، وقال عنه الشيخ أبو إسحاق الحويني: حديث باطل.

إلا أنني أقول أن شهر رمضان ليس أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، بل كله رحمة وكله مغفرة وكله عتق من النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة " (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

حديث (إنَّ للهِ عزَّ وجلَّ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ سِتَّمِائةِ ألْفِ عَتيقٍ من النارِ ، فإذا كان آخِرُ ليلةٍ أعتَقَ اللهُ بِعددِ كُلِّ مَنْ مَضَى):

وهذا الحديث قال عنه الإمام البيهقي في شعب الإيمان: حديث مرسل –وهو ضعيف-، وقال عنه الإمام ابن حبان: لا أصل له، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب: حديث ضعيف.

ولكن الصحيح أن لله عتقاء في شهر رمضان في كل ليلة بأعداد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: " ... ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة " (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني). وعنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ " (راوه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني). وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله عتقاء في كل يوم وليلة لكل عبد منهم دعوة مستجابة " (رواه أحمد وصححه الألباني).



حديث (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه، وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه أبداً، ولله في كل يوم ألف ألف عتيق من النار، فإذا كانت ليلة تسع وعشرين أعتق الله فيها مثل جميع ما أعتق في الشهر كله):

وهذا الحديث: حديث موضوع، كما بين الإمام ابن الجوزي في الموضوعات، والإمام الشوكاني في الفوائد المجموعة، والإمام الألباني في ضعيف الترغيب والسلسلة الضعيفة.

ونقول هنا ما ذكرناه في الحديث السابق أن لله عتقاء في كل ليلة بأعداد لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

حديث (إن الجنة لتبخر وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان ، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة ... قال : ولله عز وجل في كل يوم من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار، فإذا كان آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن الجوزي في العلل المتناهية: لا يصح، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب: حديث موضوع.

حديث (لو يعلمُ العبادُ ما في رمضانَ لتمنَّت أمَّتي أن يكونَ رمضانُ السَّنةَ كلَّها . فقال رجلٌ من خزاعةَ: حدِّثْنا به قال : إنَّ الجنَّةَ تزيَّنُ لرمضانَ من رأسِ الحولِ إلى الحولِ ، حتَّى إذا كان أوَّلُ يومٍ من رمضانَ ، هبَّتْ ريحٌ من تحتِ العرشِ فصفَّقتْ ورقُ الجنَّةِ ، فينظرُ الحورُ العينُ إلى ذلك فيقلن: يا ربِّ اجعلْ لنا من عبادِك في هذا الشَّهرِ أزواجًا تقرُّ أعينُنا بهم، وتقرُّ أعينُهم بنا، قال: فما من عبدٍ يصومُ رمضانَ إلَّا زُوِّج زوجةً من الحور العينِ في خيمةٍ من درٍّ مجوَّفةٍ ممَّا نعت اللهُ عزَّ وجلَّ حورٌ مقصوراتٌ في الخيامِ على كلِّ امرأةٍ سبعون حُلَّةً ليس فيها حُلَّةٌ على لونِ الأخرَى ... ):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن الجوزي في الموضوعات: حديث موضوع، وقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية: ضعيف جداً، وقال عنه الإمام الشوكاني في الفوائد المجموعة: حديث موضوع، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب: حديث موضوع.



حديث (يا أيُّها النَّاسُ قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ ... ومَن تقرَّبَ فيهِ بخَصلةٍ منَ الخير كانَ كمَن أدَّى فريضةً فيما سِواهُ، ومَن أدَّى فريضةً كانَ كمَن أدَّى سبعينَ فريضةً فيما سِواهُ):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير: حديث ضعيف، وقال عنه الإمام الألباني في تخريج مشكاة المصابيح: حديث ضعيف جداً، وقال عنه  في السلسلة الضعيفة: حديث منكر.

وليس معنى ضعف هذا الحديث أن الأجر ليس مضاعفاً في رمضان، بل إن الله يضاعف الحسنات في رمضان وغيره إلى سبعمائة ضعف، وأجر الصيام ينفرد بعلم ثوابه وتضعيف حسناته الله سبحانه وتعالى، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي " (رواه مسلم).

حديث (شهر رمضان شهر أمتي ترمض فيه ذنوبهم، فإذا صامه عبد مسلم ولم يكذب ولم يغتب وفطره طيب، خرج من ذنوبه كما تخرج الحية من سلخها):

وهذا الحديث قال عنه الإمام الألباني في السلسلة الضعيفة وضعيف الترغيب: حديث ضعيف جداً.

ومن الجدير بالذكر أنه قد ثبت في أحاديث أخرى صحيحة أن شهر رمضان تكفر فيه الخطايا والذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " (رواه البخاري ومسلم).

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " (رواه مسلم).

حديث (من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه وكتب له بكل يوم عتق رقبة وبكل ليلة عتق رقبة وكل يوم حملان فرس في سبيل الله وفي كل يوم حسنة وفي كل ليلة حسنة):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف: إسناده ضعيف، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب والسلسلة الضعيفة: حديث موضوع.

حديث (كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا دخَلَ رجبٌ قالَ: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف وقال عنه الإمام النووي في الأذكار: إسناده فيه ضعف، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب: حديث ضعيف.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذا الحديث من حيث المعنى صحيح وطيب أن يدعو به الإنسان المسلم، ولكن لا ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وإن دعاء المسلم ربه أن يبلغه رمضان فهو دعاء طيب لا بأس به، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتاب لطائف المعارف: " قال معلى بن الفضل: كانوا –أي السلف- يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا ".

حديث (رَجبُ شهرُ اللهِ ، وشعبانُ شهري ، ورمضانُ شهرُ أمتي ...):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن الجوزي في الموضوعات، والحافظ ابن حجر العسقلاني في تبيين العجب، والشوكاني في الفوائد المجموعة، والحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام، والإمام ابن القيم الجوزية في المنار المنيف: حديث موضوع.

حديث (من فطر صائما في شهر رمضان من كسب حلال؛ صلت عليه الملائكة ليالي رمضان كلها، وصافحه جبرائيل ليلة القدر، ومن صافحه جبرائيل عليه السلام يرق قلبه، وتكثر دموعه. قال : فقلت : يا رسول الله ! أفرأيت من لم يكن عنده ؟ قال : فقبصة من طعام. قلت: أفرأيت إن لم يكن عنده لقمة خبز ؟ قال : فمذقة من لبن . قال أفرأيت إن لم تكن عنده ؟ قال : فشربة من ماء):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن حبان في المجروحين: لا أصل له، وقال عنه الإمام ابن الجوزي في الموضوعات: لا يصح، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الترغيب: حديث ضعيف جداً.

وقد صح في أجر إفطار الصائم أن من فطر صائماً كان له مثل أجره، فعن زَيْدِ بْن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ فطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غيْرَ أَنَّه لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِم شيْئًا " (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني). وعنه رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: " من فطَّر صائمًا أو جهز غازيًا؛ فله مثل أجره " (رواه البيهقي وصححه الألباني).

حديث (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَر، قَالَ: بِسْمِ اللهِ اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْت):

وهذا الحديث قال عنه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار والحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير: إسناده ضعيف، وقال عنه الإمام الألباني في إرواء الغليل: حديث ضعيف.

ملاحظة: يضيف البعض للدعاء السابق عبارة (وبك آمنت وعليك توكلت): وهذه الزيادة لا أصل لها، قال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: " فزيادة، (وبك آمنت) لا أصل لها وإن كان معناها صحيحاً، وكذا زيادة (وعليك توكلت) ".

حديث (كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إذا أَفْطَرَ، قال: اللهم لك صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أنت السَّمِيعُ الْعَلِيم):

وهذا الحديث قال عنه الإمام ابن القيم الجوزية في زاد المعاد: لا يثبت، وقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتوحات الربانية: سنده واهٍ جداً، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الجامع: حديث ضعيف.

ملاحظة: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الافطار، حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " (رواه أبو داود وحسنه الألباني).

حديث (نومُ الصائمِ عبادةٌ، وصَمْتُه تسبيحٌ، وعملُه مُضاعَفٌ، ودعاؤُه مُستَجابٌ، وذنبُه مغفورٌ):

وهذا الحديث قال عنه الإمام العجلوني في كشف الخفاء والإمام العراقي في تخريج الإحياء: إسناده ضعيف، وقال عنه الإمام الألباني في ضعيف الجامع: حديث ضعيف، وقال عنه في السلسلة الضعيفة: ضعيف جداً.

ومن الجدير بالذكر أنه ثبت أن الأعمال تتضاعف في رمضان وغير رمضان إلى سبعمائة ضعف كما سبق أن بينا، وكذلك ثبت أن دعوة الصائم لا ترد، وثبت أن الصيام يكفر الذنوب، لكن أن نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح فهذا لم يثبت بأي دليل صحيح.

(يوم صومكم يوم نحركم):

ومعنى هذا الأثر أن أول يوم من شهر رمضان نفسه يوم عيد النحر (الأضحى).

وهذا الأثر قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: لا أصل له، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: " لا يعرف في شيء من كتب الإسلام ولا رواه عالم قط، وقال عنه ابن القيم في المنار المنيف: باطل، وقال عنه العراقي والسخاوي والزركشي والسيوطي والعجلوني والألباني وغيرهم: لا أصل له، وقال عنه الإمام النووي في المجموع: ضعيف بل منكر، وقال عنه العلامة ابن باز: " لا أعلم له أصلا شرعيا، ولا أعلم أنه ورد في ذلك حديث يعتمد عليه ".

حديث (من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة ولا مرض، لم يقض عنه صوم الدهر كله، وإن صامه):

وهذا الحديث قال عنه الإمام الدارقطني والإمام الألباني: حديث ضعيف، وقال عنه العلامة ابن باز: ضعيف مضطرب عند أهل العلم لا يصح.

وليس معنى ضعف هذا الحديث عدم وقوع الإثم على من أفطر متعمداً بدون عذر، فقد سبق أن بيَّنا عند حديثنا عن حكم ترك صيام شهر رمضان خطورة ذنب الإفطار في رمضان بدون عذر، فمن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من الكبائر.

ثبوت شهر مضان:

ثبوت دخول شهر رمضان:

يجب صيام رمضان بثبوت الشهر، ويثبت بأحد أمرين:

1.    رؤية هلال رمضان:

قال الله تعالى: " فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " (البقرة:185). وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له " (رواه البخاري ومسلم). وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم–أي حال دون رؤيته غيم-  فأكملوا العدة ثلاثين " (رواه البخاري).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ –خَفِيَ-  عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " (رواه البخاري ومسلم).

وتثبت رؤية هلال رمضان بشاهد واحد عدل عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي في الصحيح وأحمد والظاهرية واختاره ابن المنذر، وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه المغني: " وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن المبارك"، ورجح هذا الرأي الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

ويدل على الاكتفاء بشاهد واحد عدل، حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " تراءى الناس الهلال، فرأيته، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام وأمر الناس بصيامه "           (رواه أبو داود وصححه الألباني).

ملاحظة: لا يجوز أن نثبت صيام شهر رمضان بالحسابات الفلكية كما قال أكثر أهل العلم. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أن العلماء أجمعوا على أن الحساب لا يعتمد في إثبات الأهلة, وإنما العمدة هو رؤية الهلال أو إكمال العدة "، وأفتت اللجنة الدائمة بأن: " الرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من البدع التي لا خير فيها، ولا مستند لها من الشريعة ".

2.    إكمال عدة شعبان ثلاثين:

إذا لم تثبت رؤية هلال رمضان في التاسع والعشرين من شعبان، فإننا نكمل شعبان ثلاثين يوماً، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة؛ لأن الشهر الهلالي (الهجري) لا يقل عن تسعة وعشرين ولا يزيد عن ثلاثين يوماً، فإذا لم تتم رؤية الهلال ليلة الثلاثين مع شعبان، يتم المسلمون شعبان ثلاثين يوماً فيصبحوا مفطرين، ويكون اليوم الذي يليه بداية شهر رمضان. وما يدل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " (رواه البخاري). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " (رواه البخاري ومسلم).

ثبوت خروج شهر رمضان:

ويثبت خروج شهر رمضان كذلك بإحدى أمرين:

1.    رؤية هلال شوال:

يثبت خروج شهر رمضان برؤية هلال شوال، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا " (رواه البخاري ومسلم).

ولا يكتفى في إثبات رؤية هلال شوال بشاهد واحد، بل لابد من إثباته بشاهدي عدل باتفاق أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة، وحجتهم حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثوه أنه قال: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني).

2.    إكمال عدة رمضان ثلاثين:

إذا لم يُر هلال شوال، وجب إكمال شهر رمضان ثلاثين يوماً، ويكون اليوم الذي يلي ذلك بداية شهر شوال، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له " (رواه البخاري ومسلم). والشاهد في هذا الحديث: " فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له "، ويقصد بهذه العبارة: أي إذا لم تروا الهلال سواء هلال رمضان أو هلال شوال فأتموا الشهر ثلاثين يوماً.

ثانياً: الصيام المستحب:

يستحب للمسلم أن يصوم تطوعاً لله تبارك وتعالى شريطة أن لا يصوم الأيام التي ثبت تحريم صيامها. وقد سبق أن بينا أجر صيام التطوع عند حديثنا عن فضائل الصيام، ومن الأحاديث التي تبين فضل صيام التطوع، حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " (رواه البخاري ومسلم).

ومن الأيام التي يستحب التطوع بصيامها:

1.    صيام ستة أيام من شوال:

عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  " من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر " (رواه مسلم). وعن ثوبان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام سنة " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني).

ويجوز صيام هذه الأيام الستة خلال شهر شوال متتابعة أو متفرقة كما بين أهل العلم.

وينبغي الإشارة إلى أنه لا أصل لتسمية الأيام الستة من شوال بالستة البِيض، فالأيام البيض، فقط هي ثلاثة أيامٍ وسطَ الشهر الهجري، وهي الثالثَ عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ، حينما يكون القمرُ بدراً فتبيضُ أكثرُ لياليها بضوء القمر. ويستحب صيامها أيضاً كما سنبين.

2.    مسألة: ما حكم صيام ستة من شوال لمن عليه قضاء من رمضان ؟

اختلف العلماء في جواز صيام التطوع بشكل عام قبل قضاء رمضان، فمنهم من أجاز ذلك بلا كراهة وهو مذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة، ومنهم من أجاز ذلك مع الكراهة وهو مذهب المالكية والشافعية، ومنهم من حرم ذلك وهو مذهب الحنابلة.

أما بخصوص صيام ست من شوال قبل قضاء رمضان، فقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من أجاز صيام ست من شوال قبل القضاء؛ لأن القضاء لا يجب على الفورية.

ومنهم من قال بعدم الجواز؛ لأن صيام ست من شوال متعلق بإكمال شهر رمضان، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)،  ويفهم من هذا الحديث أنه لا بد من إتمام صيام رمضان أولاً (أداءً وقضاءً)، ثم يكون بعده صيام ست من شوال، حتى يتحقق الأجر الوارد في الحديث .ولأن الذي عليه قضاء من رمضان يقال عنه: صام بعض رمضان، ولا يقال صام رمضان .

وأخيراً نقول إن قضاء رمضان مقدم على صيام ست من شوال، فمن كان يستطيع أن يقضي ما عليه في شوال ثم يصوم ستا من شوال فهو أفضل، لكن من كان لا يستطيع فيجوز له صيام ست من شوال حتى لا تفوته فرصة صيامها، ويقضي ما عليه من رمضان خلال العام قبل مجيء رمضان التالي، فلا يجب قضاء رمضان على الفورية وإنما يستحب ذلك، فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (رواه البخاري ومسلم). وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: " ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي، ولا يشترط المبادرة به أول الإمكان ".

3.    مسألة: من عليه قضاء ست أيام من رمضان مثلاً، هل يجوز له أن يصومها في شوال بنية القضاء وبنية صيام ستة أيام من شوال معاً ؟

بعد طول بحث في هذه المسألة، وجدت أن أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجوز الجمع بين القضاء وصيام ست من شوال بنية واحدة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وأفتى بذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وغيرهما وعليه فتوى اللجنة الدائمة؛ ذلك أنه في مسألة الجمع بين عبادتين بنية واحدة (وتعرف هذه المسألة عند الفقهاء بالتشريك)، ينبغي التفريق بين العبادات المقصود لذاتها وغير المقصودة لذاتها، فإن كانت إحدى العبادتين غير مقصودة، والأخرى مقصودة بذاتها صح الجمع بينهما كتحية المسجد مع سنة الفجر مثلاً، فتحية المسجد غير مقصودة بذاتها، وإنما المقصود هو شغل المكان بالصلاة، وقد حصل، وأما الجمع بين عبادتين مقصودتين بذاتهما كالظهر وراتبته، أو قضاء رمضان وصيام ست من شوال فلا يصح الجمع؛ لأن كل عبادة مستقلة عن الأخرى، وقضاء رمضان مقصود لذاته، وصيام ست من شوال مقصود لذاته؛ لأنهما معاً كصيام الدهر، فلا يصح التداخل والجمع بينهما بنية واحدة.

وقد سئلت اللجنة الدائمة عن هذه المسألة، فأجابت: " لا يكفي من عليه قضاء من شهر رمضان أن يصوم ستًّا من شهر شوال عن القضاء تطوعًا، بل يجب أن يصوم ما عليه من القضاء ثم يصوم ستة أيام من شوال إذا رغب في ذلك قبل انسلاخ الشهر ".

القول الثاني: جواز الجمع بين قضاء رمضان وصيام ست من شوال بنية واحدة، مع الإشارة إلى فاعل ذلك لا يكون له كامل الثواب، وإنما يحصل على أصل ثواب السنة، وأفتى بذلك بعض المالكية وجماعة من المتأخرين من الشافعية، وقال بجوازه الإمام الألباني، وأفتت به دار الإفتاء المصرية.

فقد سئلت دار الإفتاء المصرية عن ذلك، فأجابت: " يجوز للمرأة المسلمة أن تقضي ما فاتها من صوم في شهر شوال، وتكتفي به عن صيام الست من شوال، ويحصل لها ثوابها؛ لكون هذا الصيام قد وقع في شهر شوال. إلا أن الأكمل والأفضل أن صوم المسلم أو المسلمة القضاء أولاً ثم الست من شوال أو الست من شوال أولاً ثم القضاء؛ لأن حصول الثواب بالجمع لا يعني حصول كامل الثواب، وإنما يعني حصول أصل ثواب السنة بالإضافة إلى ثواب الفريضة ".



الأيام الثمانية الأُوَل من شهر ذي الحجة:

يستحب للمسلم صوم الأيام الثمانية الأُوَل من ذي الحجة؛ إذ إن من السنة أن يجتهد المسلم في العمل الصالح في هذه الأيام، ومن أَجَلِّ الأعمال الصالحة الصيام، ويجوز الصيام في هذه الأيام للحاج ولغير الحاج، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) " رواه البخاري وابن ماجه واللفظ له وصححه الألباني).

صوم يوم عرفة لغير الحاج:

عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ " (رواه مسلم). قال النووي في شرح صحيح مسلم: " قالوا: المراد بها الصغائر"، وهذا قول جمهور أهل العلم، وقال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم الجوزية وغيرهما، فالكبائر لا تكفر إلا بالتوبة.

ملاحظة: يكره صيام يوم عرفة للحاج كما سنبين لاحقاً.

الصوم في شهر الله المحرم خاصة يومي التاسع والعاشر:

يستحب الإكثار من الصيام في شهر المحرم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " (رواه مسلم).

ويتأكد الاستحباب في صيام العاشر من المحرم (عاشوراء)، فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله " (رواه مسلم).

عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ ، إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ " (رواه البخاري ومسلم). معنى يتحرى: أي يترقب ويتهيأ لصومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.

ويستحب صيام يوم التاسع من المحرم (تاسوعاء) مخالفة لليهود في اقتصارهم على صوم العاشر، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ". قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (رواه مسلم).

ملاحظة:

ذكر ابن القيم الجوزية  في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري، أن أعلى مراتب صيام عاشوراء صوم التاسع والعاشر والحادي عشر.

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام".

وقال الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله في كتابه مغنى المحتاج: " حكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر، والاحتراز من إفراده بالصوم، كما في يوم الجمعة، فان لم يُصم معه تاسوعاء سُنّ أن يصوم معه الحادي عشر، بل نصّ الشافعي في "الأم" و"الإملاء" على استحباب صوم الثلاثة ".

صوم أكثر أيام شهر شعبان:

يستحب إكثار الصيام في شهر شعبان، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً منه في شعبان " (رواه البخاري ومسلم).

وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: " كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلاً " (رواه مسلم).

والحكمة من استحباب إكثار الصيام في شهر شعبان جاءت في حديث أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنه الذي يقول فيه: " قُلْت: يَا رَسُول اللَّه، لَمْ أَرَك تَصُومُ مِنْ شَهْر مِنْ الشُّهُور مَا تَصُوم مِنْ شَعْبَان, قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَان , وَهُوَ شَهْر تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " (رواه أبو داود والنسائي وحسنه الألباني).

مسألة: ما حكم تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام أو تخصيص ليلته قيام ؟

إن تخصيص يوم النصف من شعبان بالصيام لمن ليس له عادة بصيام الأيام البيض أو تخصيص ليلة النصف من شعبان بالقيام لمن ليس له عادة بقيام، اعتقاداً بأن لصيام هذا اليوم أو لقيام ليلته فضيلة (بدعة) كما قال أكثر أهل العلم؛ إذ لا يصح في فضل النصف من شعبان ولا صيامه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما ورد في هذا الشأن فهو ضعيف أو موضوع، قال الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام في تعداده لأوجه البدع: " ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته ".

مسألة: ما حكم الصيام بعد منتصف شهر شعبان ؟

عن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا " (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

اختلف العلماء في صحة الصيام بعد انتصاف شعبان، تبعاً لاختلافهم في صحة الحديث السابق واختلافهم في مفهومه، وذلك على قولين:

القول الأول: جواز الصيام بعد منتصف شعبان، وهذا مذهب جمهور العلماء. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: "وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهِ, وَقَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ إِنَّهُ مُنْكَرٌ". ومما استدلوا به حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ" (رواه البخاري ومسلم).

القول الثاني: كراهة الصيام بعد منتصف شعبان، وهذا مذهب الشافعية وبعض الحنابلة، واختاره الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

والحكمة من هذا النهي أن تتابع الصيام قد يضعف عن صيام رمضان، قَالَ الملا علي الْقَارِي رحمه الله في كتابه مرقاة المفاتيح: " وَالنَّهْيُ لِلتَّنْزِيهِ، رَحْمَةً عَلَى الأُمَّةِ أَنْ يَضْعُفُوا عَنْ حَقِّ الْقِيَامِ بِصِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ النَّشَاطِ. وَأَمَّا مَنْ صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ فَيَتَعَوَّدُ بِالصَّوْمِ وَيَزُولُ عَنْهُ الْكُلْفَةُ ".

ويستثنى من الكراهة الحالات التالية:

الأولى: من اعتاد أن يصوم فيجوز له أن يصوم ولو انتصف شعبان، كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً أو يصوم يومي الاثنين والخميس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ " (رواه البخاري ومسلم).

الثانية: من أراد أن يصوم معظم شعبان كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً منه في شعبان " (رواه البخاري ومسلم).

الثالثة: من كان عليه قضاء أو صوم واجب، فلا خلاف في وجوب صومه ولو انتصف شعبان.

صيام يومي الاثنين والخميس:

يستحب للمسلم أن يواظب على صيام الاثنين والخميس، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الإثنين والخميس، فسُئِلَ عن ذلك، فقال: إن أعمال العباد تُعرض يوم الاثنين والخميس، وأحب أن يُعرَضَ عملي وأنا صائم " (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس " (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني).

وعن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي " (رواه مسلم).

صيام ثلاثة أيام من كل شهر

يسن للمسلم أن يحرص على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ " (رواه البخاري ومسلم).

وعن مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ، أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؟ "، قَالَتْ: "نَعَمْ"، فَقُلْتُ لَهَا: "مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ "، قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ " (رواه مسلم).

وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَأَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ " (رواه النسائي وصححه الألباني). وتسمى أيام الثالثَ عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ من الشهر الهجري بالأيام البيض كما أسلفنا؛ لأن القمر في لياليها يكون بدراً فتبيضُ لياليها بضوء القمر، وقيل: لأن القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا صُمْتَ شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ، فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ " (رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني).

وعليه فإن الأمر واسع في تحديد الأيام الثلاثة التي يسن صيامها من كل شهر، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " يجوز للإنسان أن يصوم في أول الشهر، أو وسطه، أو آخره، متتابعة، أو متفرقة، لكن الأفضل أن تكون في الأيام البيض الثلاثة وهي: ثلاثة عشر، وأربعة عشر،  وخمسة عشر".

صيام يوم وإفطار يوم (صيام داود عليه السلام):

يسن للمسلم إن كان قادراً على الصيام أن يصوم صيام سيدنا داود عليه السلام، بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً مع مراعاة عدم صيام الأيام المنهي عن صيامها. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود: وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً " )رواه البخاري ومسلم).

وهذا الصيام أعلى درجات الصيام وأفضلها، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: " أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك " (رواه البخاري ومسلم).

مسألة: هل يجوز للمرأة أن تصوم صيام التطوع بغير إذن زوجها؟

لا يجوز للمرأة أن تصوم نفلاً (أي صيام تطوع) وزوجها حاضرٌ إلا بإذنه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ " (رواه البخاري ومسلم).

وبناء على هذه المسألة إذا صامت الزوجة تطوعاً بغير إذن زوجها، فله أن يفطرها إذا احتاج إلى ذلك، وهذا باتفاق أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة.

وسبب هذا أن للزوج حق الاستمتاع بزوجته في كل الأيام، وحقه منها واجب على الفور، فلا يفوت هذا الحق بتطوع منها بدون إذنه، فإذا كان زوجها غائباً عنها فصومها التطوع جائز بلا خلاف، لمفهوم الحديث السابق ولزوال سبب النهي.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنه لو صامت المرأة بغير إذن زوجها صح صومها مع الحرمة على قول الجمهور. جاء في الموسوعة الفقهية: " ولو صامت المرأة بغير إذن زوجها صحّ مع الحرمة عند جمهور الفقهاء، والكراهة التّحريميّة عند الحنفيّة، إلاّ أن الشّافعيّة خصّوا الحرمة بما يتكرّر صومه، أمّا ما لا يتكرّر صومه كعرفة وعاشوراء وستّة من شوّال فلها صومها بغير إذنه، إلاّ إن منعها، ولا تحتاج المرأة إلى إذن الزّوج إذا كان غائباً ، لمفهوم الحديث ولزوال معنى النّهي ".

ملاحظة: مسألة استئذان المرأة زوجها للصيام، يكون فقط في صيام التطوع، أما في صيام رمضان، فتصوم ولو لم يأذن لها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وجاء حديث صحيح صريح يدل على أنه لا يلزم المرأة أن تستأذن زوجها في صيام رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ غَيْرَ رَمَضَانَ " (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني) .

ثالثاً: الصيام المكروه:

1.    صوم الدهر:

وهو أن يسرد المسلم الصيام، فيصوم كل يوم –باستثناء الأيام المنهي عنها- دون أن يفطر، وهو مكروه، هذا عند مذهب الحنفية، ووقول للمالكية، وقول للشافعية، وبعض الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، وأفتت به اللجنة الدائمة؛ لأنه يضعف الصائم عن الفرائض والواجبات وعن الكسب الذي لا بد منه؛ ولأنه يصير العبادة عادةً وطبعاً، ومبنى العبادة على مخالفة العادة.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   " لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَد " (رواه البخاري ومسلم).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ؟ قَالَ : لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ " (رواه مسلم).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :" جَاءَ ثَلاثُ رَهطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسأَلُونَ عَن عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا ، فَقَالًوا : وأَينَ نَحنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ؟ قَد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ أَحَدُهُم : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الَّليلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهرَ وَلَا أُفطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنتُمُ الَّذِينَ قلُتُم كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخشَاكُم للَّهِ وَأَتقَاكُم لَه ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيسَ مِنِّي " (رواه البخاري ومسلم).

ومن الأدلة على كراهة صوم الدهر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما    -الذي ذكرناه سابقاً- ويقول فيه: " أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك" (رواه البخاري ومسلم).

2.    صوم الوصال:

وهو أن يصوم المسلم يومين فلا يأكل بينهما شيئاً، وهو مكروه عند الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، وعليه أكثرُ أهل العلم.

وقال الشافعية في الأصح من مذهبهم كما بين الإمام النووي واختار ابن عثيمين أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن صوم الوصال من باب التحريم.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام، وكان الله تعالى يعطيه القوة على ذلك، ولكنه نهى أمته عن ذلك شفقة عليهم، ورحمة بهم .فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُوَاصِلُوا. قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " (رواه البخاري ومسلم) .

واختلف العلماء في بيان معنى الحديث السابق، فمنهم من قال أنه يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له، ومنهم من قال أنه يشغله صلى الله عليه وسلم ذكر الله تعالى والتفكر في عظمته والاستغراق في مناجاته عن الطعام والشراب، ومنهم من قال أن الله يجعل فيه قوة الطاعم والشارب، ورجح ذلك الجمهور كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وأخذ بهذا القول الإمام النووي كما ذكر في شرح صحيح مسلم.

3.    صيام يوم عرفة للحاج:

لا يستحب للحاج صيام عرفة ويكره له ذلك، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الفطر يوم عرفة، فعن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنهما: " أنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن، وهو واقفٌ على بعيره بعرفة، فشرب " (رواه البخاري ومسلم).

وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صوم يوم عرفة بعرفة، فقال: " حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه، ولا آمر بصومه، ولا أنهي عنه " (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).

والأفضل للحاج أن يفطر يوم عرفة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولما فيه من التقوية على الدعاء والذكر في هذا الموقف العظيم.

4.    إفراد يوم الجمعة بالصيام:

يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إذا صامه المسلم لخصوصيته، أما إذا صامه لموافقته عادة جاز له ذلك، مثل: من يصوم يومًا ويفطر يومًا فيوافق صومه يوم الجمعة، وإذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده جاز ذلك، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، ومحمد الأمين الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة، وذلك للأدلة التالية:

1.    عن محمد بن عباد رحمه الله قال: " سألت جابرًا رضي الله عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم " (رواه البخاري ومسلم).

2.    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده " (رواه البخاري ومسلم).

3.    عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري " (رواه البخاري).

4.    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم " (رواه مسلم).

5.    وقال ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: " يستثنى من النهي: ِمَنْ صَامَ قَبْله أَوْ بَعْده أَوْ اِتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي أَيَّامٍ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِهَا كَمَنْ يَصُوم أَيَّام الْبِيضِ أَوْ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ عَرَفَةَ أو يوم عاشوراء فَوَافَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ, وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ صَوْمِهِ لِمَنْ نَذَرَ يَوْم قُدُوم زَيْدٍ مَثَلًا أَوْ يَوْم شِفَاء فُلَانٍ ".

6.    وأفتت اللجنة الدائمة بانه: " يجوز للمسلم أن يصوم يوم الجمعة قضاء عن يوم رمضان ولو منفرداً ".

وخلاصة ما تقدم:

يكره صيام يوم الجمعة على قول جمهور العلماء إلا في حالات، وهي:

1.    من كان له عادة بصيام، كمن يصوم يوماً ويفطر يوماً.

2.    من صام يوماً قبله أو يوماً بعده.

3.    إن وافق يوماً يصومه المسلم عادة، كيوم عرفة أو عاشوراء؛ لأنه يصوم هذا اليوم ليس لأنه يوم الجمعة، بل لأنه يوم عرفة أو يوم عاشوراء.

4.    من كان عليه صيام واجب كمن أراد قضاء ما أفطر في رمضان أو نذر أن يصوم في مناسبة معينة فوقعت في يوم الجمعة، فيجوز له الصيام؛ لأنه لا يصوم يوم الجمعة تخصيصاً له.

فائدة:

ذكر الإمام النووي في شرح صحيح مسلم الحكمة من كراهة إفراد يوم الجمعة بالصيام، فقال: " قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها ... وغير ذلك من العبادات في يومها، فاستحب الفطر فيه، فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة ... فإن قيل: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه، فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهي عن إفراد صوم الجمعة، وقيل: سببه خوف المبالغة في تعظيمه، بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت، وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه، وقيل: سبب النهي لئلا يعتقد وجوبه، وهذا ضعيف منتقض بيوم الإثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد، وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك، فالصواب ما قدمنا. والله أعلم ".

إفراد يوم السبت بالصيام:

إفراد يوم السبت بالصوم تطوعاً من غير أن يكون عادةً، ولا مقروناً بيومٍ قبله أو بعده، اختلف فيه أهل العلم على أقوال، منها:

القول الأول: يكره إفراد يوم السبت بالصوم؛ وذلك لأن في إفراده بالصوم تعظيماً له فيحصل التشبه باليهود، وهذا قول جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المعتمد عندهم. فعن عبد الله بن بُسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلا فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ " (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

ومعنى (لحاء عنبة): القشرة التي تكون على حبة العنب، ويقصد بهذا الحديث أنه ينبغي على المسلم أن يفطر في يوم السبت حتى وإن لم يجد إلا قشرة حبة عنب أو عودة شجرة، وهذا يدلل على النهي عن الصيام يوم السبت.

وقَالَ الإمام الترمذي رحمه الله: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمَعْنَى كَرَاهَتِهِ فِي هَذَا أَنْ يَخُصَّ الرَّجُلُ يَوْمَ السَّبْتِ بِصِيَامٍ لأَنَّ الْيَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ السَّبْتِ ".

القول الثاني: يجوز صوم يوم السبت مطلقاً سواء كان مفرداً أم مقروناً بغيره، وجاء هذا القول في رواية عن أحمد، ورجحه الطحاوي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، وابن باز؛ وذلك لبقاء إباحة التطوع على أصلها، إذ لم يصح عندهم في النهي عن إفراد يوم السبت بالصوم حديثٌ يعتمد عليه.

وقد لخص الشيخ ابن العثيمين رحمه الله إفراد يوم السبت بالصيام في كتابه مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، على النحو التالي:

الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ، كرمضان أَدَاءً، أو قضاءً، وكصيام الكَفَّارَةِ، وبدل هدي التَّمَتُّع، ونحو ذلك؛ فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك مُعتَقِدًا أن له مزية.

الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة؛ فلا بأس به.

الحال الثالثة: أن يُصَادِف صيام أيام مشروعة؛ كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شَوَّال لمن صام رمضان وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس؛ لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنه من الأيام التي يُشْرَع صومها.

الحال الرابعة: أن يُصادِف عادةً، كعادة من يصوم يومًا وَيُفْطِر يَوْمًا، فَيُصَادِف يوم صومِهِ يوم السبت؛ فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه، وهذا مثله.

الحال الخامسة: أن يَخُصَّهُ بصوم تَطَوُّع؛ فيفرده بالصوم؛ فهذا محل النَّهي إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ.

تخصيص شهر رجب بالصوم:

يكره تخصيص شهر رجب بالصوم أو تخصيص أيام محددة من شهر رجب بالصوم اعتقاداً بفضيلة الصوم في شهر رجب، أما من صام لسبب آخر كما لو كان يقضي ما فاته من رمضان أو يصوم لنذرٍ أو كفارة أو كان له عادة بصيام كمن يصوم يومي الإثنين والخميس أو ثلاث أيام من كل شهر أو يصوم يوماً ويفطر يوماً فهذا لا بأس به، وقد نص على ذلك فقهاء المالكية، والحنابلة، وهو اختيار الشوكاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، وابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة. وذلك للآتي:

إن تخصيص الصوم في رجب فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه، وكان عمر بن الخطاب يضرب من كان يفعل ذلك، فعَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ رضي الله عنه، قَالَ: " رَأَيْتُ عُمَرَ (يقصد ابن الخطاب) يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ، حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الْجِفَانِ (أواني الطعام)، وَيَقُولُ: كُلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّة " (رواه الطبراني وصححه الألباني).

لم تثبت فضيلة تخصيص الصيام في رجب في أي حديث يعتمد عليه، قال الشوكاني رحمه الله في كتابه السيل الجرار: " لم يرد في رجب على الخصوص سنةٌ صحيحةٌ ولا حسنةٌ ولا ضعيفةٌ ضعفاً خفيفاً، بل جميع ما روي فيه على الخصوص إما موضوعٌ مكذوبٌ أو ضعيفٌ شديد الضعف ".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى: " وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات ".

رابعاً: الصيام المحرم:

1.    صيام يومي العيدين:

يحرم صيام يومي العيدين بإجماع أهل العلم، فعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: " شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم " (رواه البخاري مسلم).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر والنحر " (رواه البخاري مسلم).

2.    صيام أيام التشريق:

يحرم صيام أيام التشريق باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة، وأيام التشريق هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، فعن أبى المليح عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيام التشريق أيام أكلٍ وشرب " (رواه مسلم).

وعن أبي مرة مولى أم هانئ: أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص، فقرب إليهما طعامًا فقال: " كُل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: " كُلْ، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نفطرها، وينهانا عن صيامها " (رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني).

ومن الجدير بالذكر أنه يجوز الصوم في أيام التشريق فقط للحاج الذي لم يجد الهدي، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي "  (رواه البخاري).

3.    صيام يوم الشك:

يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم تثبت رؤية الهلال في ليلته ثبوتاً شرعياً، وسُمِّي يوم الشك؛ لأنه يحتمل أن يكون يوم الثلاثين من شعبان، ويحتمل أن يكون اليوم الأول من رمضان .

ولا يجوز صوم هذا اليوم خوفاً من أن يكون رمضان أو على سبيل الاحتياط على قول جمهور العلماء. فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: " مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني).

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: " اسْتُدِلَّ بِهِ –يقصد بالحديث السابق- عَلَى تَحْرِيم صَوْم يَوْمِ الشَّكِّ؛ لأَنَّ الصَّحَابِيَّ لا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ ".

ولكن يجوز صيام يوم الشك إذا كان يصادف عادة للمسلم، كأن تكون عادته صوم يوم وفطر يوم، أو صوم الاثنين أو الخميس ونحوه، فحينها يجوز له صيام يوم الشك ليس احتياطاً ولا خوفاً من أن يكون رمضان، بل لأنه يصادف عادة للمسلم، لحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ " (رواه البخاري ومسلم).

قال الإمام النووي في كتابه المجموع عن صوم يوم الشك: " وَأَمَّا إذَا صَامَهُ تَطَوُّعًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ بِأَنْ كَانَ عَادَتُهُ صَوْمَ الدَّهْرِ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ، أَوْ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَصَادَفَهُ جَازَ صَوْمُهُ بِلا خِلافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ... وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُل كَانَ يَصُوم صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ)، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فَصَوْمُهُ حَرَامٌ ".

وقال الشيخ ابن عثيمين في كتابه شرح رياض الصالحين في شرحه لحديث (لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ ...): " واختلف العلماء رحمهم الله في هذا النهي هل هو نهي تحريم أو نهي كراهة ؟ والصحيح أنه نهي تحريم، لاسيما اليوم الذي يشك فيه ".



الفصل الثالث

شروط الصيام

أولاً: الإسلام:

إن من شروط وجوب الصيام وصحته الإسلام؛ فلا يجبُ الصَّوم على الكافر، ولا يصحُّ منه إنْ أتَى به.

وعدم وجوب الصيام على الكافر يكون في حق الدنيا، أما في حق الآخرة فإنه يحاسب على كفره وتركه الصيام الواجب. وسبب عدم وجوب الصيام على الكافر في حق الدنيا؛ لأنه ليس من أهل العبادات، وأنه لو أسلم لا يلزمه قضاء ما أفطره من الصيام الواجب زمن كفره، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، قال تعالى: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " (الأنفال:38). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإسلام يهدم ما كان قبله " (رواه مسلم).

إذا أسلم الكافر أثناء شهر رمضان فلا يلزمه قضاء الأيام الماضية من رمضان، وعليه أن يصوم ما بقي من الشهر، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة؛ وذلك لأن الكافر غير مخاطب بالصيام وليس من أهل وجوب الصيام، وعليه فلا يلزمه قضاء ما سبق على إسلامه.

إذا أسلم الكافر أثناء يوم من رمضان، فإنه يلزمه إمساك بقية اليوم (أي الكف عن المفطرات حتى غروب الشمس)، ولا يجب عليه قضاؤه؛  لأنه صار من أهل الوجوب حين إسلامه فلزم الإمساك حتى غروب الشمس، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عثيمين

وذهب المالكية والشافعية ورواية أخرى عن أحمد إلى أن الكافر إذا أسلم أثناء نهار رمضان لا يلزمه الإمساك؛ لأنّ الصوم لم يجب عليه أول النهار، فلا يجب عليه الإمساك بقيته. وعليه فإن في المسألة سعة بفضل الله تعالى.

إذا أسلم المرتد فليس عليه قضاء ما تركه من الصوم زمن ردته، وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة في الصحيح من مذهبهم؛ لأن المرتد كافر، فله مثل حكمه.



إذا أسلم المرتد، وعليه صوم قبل ردته، فإنه يجب عليه القضاء، وهو قول الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

من ارتد في أثناء الصوم، بطل صومه، وعليه قضاء ذلك اليوم إذا أسلم، وهذا بإجماع أهل العلم كما نقل الإمام ابن قدامة المقدسي والإمام النووي.



ثانياً: البلوغ:

إن من شروط وجوب الصيام البلوغ، فغير البالغ غير مكلف، فعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل " (رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).

الصبي المميز غير البالغ إن كان يطيق الصيام دون وقوع ضرر عليه، فعلى وليه أن يأمره بالصوم ليتمرَّن عليه ويتعوَّده.

إذا بلغ الصبي أثناء شهر رمضان، فإنه يصوم بقية الشهر ولا يلزمه قضاء ما سبق، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهية الأربعة وبإجماع أهل العلم؛ وذلك لأن الصبي غير البالغ غير مخاطب بالصيام وليس من أهل وجوب الصيام، وعليه فلا يلزمه قضاء ما سبق على بلوغه.

إذا بلغ الصبي أثناء نهار رمضان وهو مفطر، فإنه يلزمه أن يمسك بقية يومه، ولا قضاء عليه، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عثيمين. وذلك لأنه صار من أهل الوجوب حين بلوغه؛ فيمسك تشبهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت، ولا تلزمه الإعادة؛ لأنَّه أتى بما أُمِر به.

وذهب المالكية والشافعية ورواية أخرى عن أحمد إلى أن الصبي إذا بلغ أثناء نهار رمضان لا يلزمه الإمساك؛ لأنّ الصوم لم يجب عليه أول النهار، فلا يجب عليه الإمساك بقيته. وعليه فإن في المسألة سعة بفضل الله تعالى.



ثالثاً: العقل:

إن من شروط وجوب الصيام وصحته العقل، فالمجنون لا يجب عليه الصيام ولا يصح منه، فعن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل " (رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).

إذا أفاق المجنون أثناء شهر رمضان، فإنه يلزمه صيام بقية الشهر، وهذا بإجماع أهل العلم.

إذا أفاق المجنون أثناء نهار رمضان، لزمه أن يمسك بقية اليوم، وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عثيمين؛ وذلك لأنه صار من أهل الوجوب حين إفاقته؛ فيمسك تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.

وذهب المالكية والشافعية ورواية أخرى عن أحمد إلى أن المجنون إذا أفاق أثناء نهار رمضان لا يلزمه الإمساك؛ لأنّ الصوم لم يجب عليه أول النهار، فلا يجب عليه الإمساك بقيته. وعليه فإن في المسألة سعة بفضل الله تعالى.

إذا أفاق المجنون لا يَلزمُه قضاء ما فاته زمنَ الجنون، سواء قلَّ ما فاته أو كثُر، وسواء أفاق بعدَ رمضان أو في أثنائه، وهذا مذهبُ الشَّافعيَّة، والحنابلة، وهو اختيار ابن المنذر، وابن حزم، واختاره ابن باز، وابن عُثيمين؛ وذلك لأن المجنون ليس من أهل وجوب الصيام، فليس عليه قضاء ما تركه من الصوم زمن ردته.

من كان يُجَنُّ أحياناً ويُفيق أحياناً، فعليه أن يصوم في حال إفاقته، ولا يلزمه حال جنونه؛ وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ففي الأوقات التي يكون فيها عاقلاً يجب عليه الصوم، وفي الأوقات التي يكون فيها مجنوناً لا صوم عليه.

مسألة: حكم صوم المعتوه:

العته: هو آفة تصيب الإنسان في عقله، فيصبح مختلط الكلام والأفعال، أحياناً يتكلم كلام العقلاء ويفعل أفعالهم، وأحياناً يتكلم كلام المجانين ويفعل أفعالهم.

والمعتوه إذا كان يعقل أن الله أوجب عليه الصوم والصلاة، ويفهم أن الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته، ويميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل، فهذا من العقلاء، يلزمه أن يصوم وأن يأتي بما أوجبه الله تعالى عليه من تكاليف.

أما إن كان عقله قد اختل، وتبين خلل عقله، وأنه من جملة المعتوهين الذين ليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل، أو بين الخير والشر، فلا يجب عليه الصوم، وليس عليه قضاء، وهذا بإجماع أهل العلم كما ذكر الإمام ابن عبد البر في كتابه التمهيد.



مسألة: حكم صوم المُخَرِّف:

ليس على المُخَرِّف (فاسد العقل بسبب الكبر) صومٌ ولا قضاء ولا فدية؛ لأنه فاقد الأهلية أي ليس بعاقل، وأفتى بذلك الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله. قال ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: "المخرف لا يجب عليه صوم ولا إطعام بدله؛ لفقد الأهلية وهي العقل ".

وكذلك فاقد الذاكرة الذي لا يميز ولا يدرك فهو بمنزلة الصبي الذي لم يميز، وتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بصيام.

أما لو كان رجل كبير السن يميز أحياناً ويخرَّف أحياناً، أي في بعض الأيام يكون معه عقله وفي بعض الأحيان يزول عقله، فيلزم بالصوم وقت التمييز ولا يلزم وقت خرفه.

مسألة: حكم صوم المغمى عليه:

من نوى الصوم ثم أصيب بإغماء في رمضان، فلا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يستوعب الإغماءُ جميع النهار، أي يغمى عليه قبل الفجر ولا يفيق إلا بعد غروب الشمس، فهذا لا يصح صومه، وعليه قضاء هذا اليوم؛ لأن الصوم إمساك عن المفطرات مع النية، والمغمي عليه طول النهار فقد شرط النية، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: "فإذا أغمي عليه بحادث، أو مرض  -بعد أن تسحر- جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء ".

الحال الثانية: أن يفيق جزءاً من النهار، ولو للحظة، فصيامه صحيح، ولا قضاء عليه، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة؛ وذلك لأن الصوم إمساك عن المفطرات مع النية، وما دام أنه قد أفاق جزءاً من النهار، فقد وجد منه النية مع قصد الإمساك في جزء من النهار كما لو نام بقية يومه. وذهب المالكية إلى أنه يصح صومه إن كان إغماؤه أقل النهار.

ملاحظة: من زال عقله وفقد وعيه بسبب التخدير بالبنج أو بأي دواء لحاجة أو لعذر، فحكمه حكم الإغماء. مع الإشارة إلى أنه لو أغمي عليه بعض نهار رمضان فحُقِن بالحقن المغذية فإن صيام يفسد، ليس للإغماء وإنما لاستعمال الحقن المغذية التي تفطر.



مسألة: ما حكم صوم النائم الذي نوى الصيام ولكنه نام طيلة نهار رمضان أو أغلبه ؟

إن من نام طيلة نهار رمضان أو أغلبه فصومه صحيح ولا قضاء عليه على قول جماهير أهل العلم؛ لأنه من أهل التكليف ولم يوجد ما يبطل صومه. قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: " إذا نام جميع النهار وكان قد نوى من الليل صح صومه على المذهب، وبه قال الجمهور ".

ولكن ينبغي الإشارة إلى أن من نام طيلة نهار رمضان تكاسلاً وتقصيراً يأثم إثماً كبيراً؛ وذلك لتفريطه في أداء الصلوات المكتوبات في أوقاتها، ولعدم اغتنامه الوقت في رمضان في طاعة الله وذكر الله وقراءة القرآن. وإن غالب ذلك ينتج عن طول السهر في ليالي رمضان، والسهر الذي يسبب نوماً يضيع الصلوات والطاعات هو سهر محرم، نسأل الله العافية.

رابعاً: الإقامة:

إن من شروط وجوب الصيام الإقامة، فالمسافر لا يجب عليه الصيام ويجوز له أن يفطر وعليه القضاء، قال تعالى: " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " (البقرة:184).

ولا بد من الإشارة إلى الملاحظات التالية:

إن كان السفر بوسائل المواصلات المريحة فلا يتغير حكم جواز الفطر للمسافر، غير أن المسافر إذا لم يشق عليه الصوم، فهو في حقه أفضل على قول جمهور العلماء كما سنبين.

يشترط أن يكون السفر مباحاً على قول جمهور العلماء، فلا يجوز لمن سافر من أجل ارتكاب معصية أن يترخص ويفطر.

أقل مسافة تبيح للمسافر الفطر على قول جمهور العلماء هي ثمانية وأربعون ميلاً، وهذه المسافة مقدرة بالقياسات الحديثة ما بين 80 إلى 88 كيلو مترا تقريباً.

جاء في فتوى اللجنة الدائمة: " مقدار المسافة المبيحة للقصر –ومثلها مسافة الفطر للصائم- ثمانون كيلو مترا تقريباً على رأي جمهور العلماء ".

من عزم على السفر في رمضان فإنه لا يفطر ولا ينوي الفطر حتى يسافر؛ لأنه قد يغير رأيه أو يحدث له طارئ فلا يسافر.

لا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت بلدته، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة؛ لأنه لا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، وطالما لا زال في البلد فله أحكام المقيمين، وكذلك قد يحدث له طارئ يمنعه من السفر.

من سافر من أجل أن يجد سبباً للفطر ليس له رخصة ويحرم عليه الفطر؛ لما في ذلك تحايل من أجل إسقاط الصيام، نصَّ على هذا فقهاءُ الشافعيَّة، والحنابلة، واختارَه ابنُ القيِّم، وابنُ عثيمين.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الصيام في الأصل واجب على الإنسان، بل هو فرض وركن من أركان الإسلام كما هو معلوم، والشيء الواجب في الشرع لا يجوز للإنسان أن يفعل حيلة ليسقطه عن نفسه، فمن سافر من أجل أن يفطر كان السفر حراماً عليه، وكان الفطر كذلك حراماً عليه، فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يرجع عن سفره ويصوم، فإن لم يرجع وجب عليه أن يصوم ولو كان مسافراً، وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للإنسان أن يتحيل على الإفطار في رمضان بالسفر؛ لأن التحيل على إسقاط الواجب لا يسقطه، كما أن التحيل على المحرم لا يجعله مباحاً ".

مسألة: أيهما أفضل للمسافر الفطر أم الصوم؟

ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ, وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ صَحِيحٌ مُنْعَقِدٌ, وَإِذَا صَامَ المسافر وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ، أما من حيث الأفضلية نبين ذلك على النحو التالي:

إذا لم يشق الصوم على المسافر، فالصوم أفضل له، على قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، واختاره ابن عثيمين. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة" (رواه البخاري ومسلم).

أما إذا شق الصوم على المسافر مشقة محتملة، فالفطر في حقه أفضل؛ وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟، قالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصوم في السفر " (رواه البخاري ومسلم).

أن يشق عليه الصوم مشقة شديدة غير محتملة قد تفضي إلى الهلاك، فهنا يجب عليه الفطر ويحرم الصوم، فعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ –وهو موضع بين مكة والمدينة- فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ " (رواه البخاري ومسلم).

مسألة: هل يشرع للمسافر الفطر طيلة مدة سفره؟

إذا نوى المسافر إقامة تزيد على أربعة أيام، فإنه يأخذ أحكام المقيمين ويجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة.‏ أما إذا نوى إقامة دون أربعة أيام، أو لم ينوِ إقامة محددة فإنه يجوز له الإفطار إلى أن يرجع إلى بلده.

مسألة: إذا قدم المسافر إلى بيته أثناء النهار مفطراً، فهل عليه الإمساك حتى المغرب؟

اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

القول الأول: لا يجب عليه إمساك بقية النهار، وهو قول المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار ابن عثيمين؛ وذلك لأنَّه لا دليلَ على وجوب الإمساك؛ كما أنَّه لا يستفيد من هذا الإمساك شيئًا لوجوب القضاء عليه؛ ولأنَّ حُرمة الزَّمن قد زالت بفِطره المباح له أوَّل النهار ظاهرًا وباطنًا، فإذا أفطر كان له أن يستديمَه إلى آخِر النهار، كما لو دام العُذر.

القول الثاني: يلزمه الإمساك، وهو قول الحنفية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية، وهو اختيار ابن باز؛ وذلك لأن المسافر صار من أهل الوجوب حين قدومه؛ فيمسك تشبهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.

وعليه فإن في هذه المسألة سعة بفضل الله تعالى، الأمر المهم أن على المسافر قضاء جميع الأيام التي أفطر فيها.

خامساً: الطهارة من الحيض والنفاس:

إن من شروط الصيام وصحته الطهارة من الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء لا يجب عليهما الصيام ولا يصح صيامهما إن صامتا وعليهما القضاء. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (رواه مسلم).

فإذا صامت المرأة وقبل المغرب بدقائق نزل منها دم الحيض أو النفاس بعد ولادتها، بطل صومها وعليها القضاء.

وإذا طلع الفجر وهي حائض أو نفساء لم يصح منها صيام ذلك اليوم ولو طهرت بعد الفجر بلحظة .

وإذا طهرت الحائض أو النفساء قبيل الفجر، وجب عليهما الصوم، وإن لم يغتسلا إلا بعد الفجر، وهذا قول عامة أهل العلم. وذلك قياساً على الجنب؛ فعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما:  "أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ"      (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: " واذا انقطع دم الحائض والنفساء في الليل ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما صح صومهما ووجب عليهما إتمامه سواء تركت الغسل عمداً أم سهواً بعذر أم بغيره، كالجنب، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة ".

ملاحظة:

نشير هنا إلى أن بعض النساء يمتنعن بشكل مطلق عن الطعام والشراب في نهار رمضان أثناء الحيض أو النفاس حياءً، وهذا يَحرُم عليهن؛ إذ إنه لا يصح الصيام من الحائض أو النفساء ولا ينفعهما إن صامتا، وينبغي أن لا يمنعهن الحياء من الفطر، فتفطر الحائض أو النفساء وتخفي نفسها عن من تستحي منهم العلم بحالها، ولا تأكل شيئاً أمام الصبيان؛ لأن ذلك يحدث  إشكالاً عندهم.

فوائد مهمة للنساء:

1.    إذا أحست المرأة بألم الحيض أو تحرُّك الدم في بطنها؛ ولكنه لم يخرج منها الدم إلا بعد غروب الشمس، فصيامها ذلك اليوم صحيح وليس عليها شيء؛ لأن الذي يفسد الصوم إنما هو خروج دم الحيض وليس الإحساس به.

2.    بعض النساء يظن أن الحيض إذا أتاها بعد الغروب قبل أن تصلي العشاء فسد صوم ذلك اليوم، وهذا لا أصل له، بل إن الحيض إذا أتاها بعد الغروب ولو بلحظة فإن صومها تام وصحيح.

3.    متى طهرت النفساء ولو قبل الأربعين فإنه يجب عليها أن تصوم إذا كان ذلك في رمضان، ويجب عليها أن تصلي، لأنها طاهر ليس فيها ما يمنع الصوم ولا ما يمنع وجوب الصلاة.

4.    المستحاضة لا تمتنع من الصوم ولا من الصلاة، بل هما واجبان عليها بإجماع العلماء، فهي كالطاهرة تماماً.

5.    ودم الاستحاضة هو الدم الخارج من فرج المرأة من عرق في أدنى الرحم يُسمَّى العاذل، على سبيل المرض والعلة، في غير أيام الحيض والنفاس.

6.    فتغسل المستحاضة فرجها لإزالة النجاسة، وتتحفظ بأن تعصب شيئاً على فرجها (كخرقة أو ما يضعه النساء في عصرنا من الفوط الصحية) لكي تمنع نزول الدم على بدنها وثيابها، وتتوضأ لكل صلاة وتصلي وتصوم كذلك.

وللعلم نفرق بين دم الحيض و دم الاستحاضة:

1.    من حيث طبيعة الدم: دم الحيض دم طبيعة وجبلة، أما دم الاستحاضة فهو دم علة وفساد.

2.    من حيث مكان خروج الدم: دم الحيض يخرج من قعر الرحم, ودم الاستحاضة يسيل من عرق في أدنى الرحم يسمى العاذل.

3.    من حيث لون الدم ورقته: دم الحيض أسود ثخين، وأما دم الاستحاضة في الغالب فهو أحمر رقيق مشرق.

4.    من حيث الرَّائحة: دم الحيض منتنٌ كريهٌ، والاستحاضةِ غيرُ منتنٍ؛ لأنه دَمُ عِرْقٍ عادي.

5.    من حيث التجلط: دم الحيض لا يتجلط ولو بقي سنيناً، أما دم الاستحاضة فإنه يتجمد ويتجلط بعد خروجه مباشرة.

اختلف أهل العلم في حيض الحامل، والأصل أن الحامل لا تحيض، لكن قد تشذ امرأة فينزل منها دم وهي حامل، فينظر في هذا الدم، فإن كان كدم الحيض لونًا ورائحة وطبيعة وفي وقت الحيض فإنه يُعدُّ حيضاً يمنعها من الصلاة والصيام ويحرم عليها ما يحرم على الحائض، أما إذا كان الدم النازل على الحامل يخالف طبيعة دم الحيض وفي غير أوانه فلا يكون دم حيض وليس له اعتبار، كدم الاستحاضة، وهذا لا يمنعها من الصلاة والصيام ولا يحرم عليها شيء.

إذا أجهضت الحامل، فيُنظر إلى الجنين، إن كان لم يُخلق بعد فإن دمها ليس دم نفاس، وعلى هذا فإنها تصوم وتصلي وصيامها صحيح ولا يحرم عليها شيء، وإذا كان الجنين قد خُلق فإن الدم دم نفاس لا يحل لها أن تصلي فيه، ولا أن تصوم، ويحرم عليها ما يحرم على النفساء.



مسألة: إذا طهرت الحائض أو النفساء أثناء نهار رمضان فهل يلزمها الإمساك حتى غروب الشمس؟

إذا طهرت الحائض أو النفساء أثناء نهار رمضان، اختلف أهلُ العِلم في حُكم لزوم الإمساك عليهما على قولين:

القول الأول: لا يلزمهما إمساك بقية اليوم، وهو قول المالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وهو اختيار ابن حزم، وابن عثيمين. وذلك لأنه لا دليل على وجوب الإمساك، ولأنه لا فائدة من هذا الإمساك، وذلك لوجوب القضاء عليهما، كما أن حرمة الزمن قد زالت بفطرهما الواجب أول النهار. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك؛ لأن هذه المرأة يباح لها الفطر أول النهار إباحة مطلقة، فاليوم في حقها ليس يوما محترماً، ولا تستفيد من إلزامها بالإمساك إلا التعب ".

القول الثاني: يلزمهما الإمساك، وهو قول الحنفية، والصَّحيح من مذهب الحنابلة، وهو اختيار ابن باز؛ وذلك لأن الحائض والنفساء صارا من أهل الوجوب حين طهارتهما؛ فيمسكان تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت. وعليه فإن في المسألة سعة بفضل الله تعالى.

مسألة: حكم استعمال المرأة الحبوب لمنع الحيض من أجل صيام رمضان كاملاً دون انقطاع:

بحسب الأصل يجوز للمرأة استعمال حبوب منع الحيض إذا أمنت الضرر، لكن إن كان تناول حبوب تأخير الحيض سيسبّب لها أضراراً كنزيف أو أمراض فلا يجوز لها أن تستعمل هذه الحبوب، ولذا اشترط علماء اللجنة الدائمة وقطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بالكويت أن يقرر أهل الخبرة الأمناء من الأطباء ومن في حكمهم إن ذلك لا يضرها، ولا يؤثر على جهاز حملها.

وفي هذا الإطار قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الذي أرى أن المرأة لا تستعمل هذه الحبوب لا في رمضان ولا في غيره، لأنه ثبت عندي من تقرير الأطباء أنها مضرة جداً على المرأة على الرحم والأعصاب والدم، وكل شيءٍ مضرٌّ فإنه منهيٌّ عنه ".

وقال أيضاً: " أقول لهذه المرأة ولأمثالها من النساء اللاتي يأتيهن الحيض في رمضان: إنه وإن فاتها ما يفوتها من الصلاة والقراءة فإنما ذلك بقضاء الله وقدره، وعليها أن تصبر، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها حينما حاضت: إن هذا شيء كتبه على بنات آدم. فنقول لهذه المرأة: إن الحيض الذي أصابها شيءٌ كتبه الله على بنات آدم فلتصبر، ولا تعرض نفسها للخطر، وقد ثبت عندنا أن حبوب منع الحيض لها تأثيرٌ على الصحة وعلى الرحم".

وعليه فإننا نرى عدم استعمال هذه الحبوب منعاً للضرر الذي يصيب المرأة، وقد قال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

ولتعلم الحائض والنفساء أنه إذا فاتها الصوم في رمضان، فإنه يمكنها أن تدرك فضل الشهر بذكر الله والصدقات وحسن الخلق والمعاملة، بل إذا أخلصت في عملها في بيتها وخدمة زوجها وأبنائها ونوت أن يكون عملها لله تعالى، فإنها تنال الأجر بإذن الله تعالى.

وأشير هنا إلى نقطة غاية في الأهمية: يجوز للمرأة الحائض أو النفساء قراءة القرآن، وهذا قول المالكية والشافعي في القديم ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن باز وابن عثيمين وأفتت بها اللجنة الدائمة.

فتقرأ الحائض والنفساء القرآن لكن دون مس المصحف، وإن دعت الحاجة إلى القراءة من المصحف جازت من وراء حائل، كأن تمسه من وراء قفازين أو يمسكه لها غيرها كبنتها أو أختها الطاهرة مثلاً وتقرأ بالنظر إليه من غير أن تمسه.

ويجوز للحائض أن تقرأ القرآن من الجوال (الهاتف المحمول)، وقد أفتى بذلك الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك والشيخ صالح الفوزان حفظهما الله تعالى؛ لأن الجوال لا يسمى مصحفاً، وليس  له حكم المصحف، فوجود حروف القرآن في الجوال يختلف عن وجودها في المصحف، فلا توجد بصفتها المقروءة، بل توجد على صفة ذبذبات تتكون منها الحروف بصورتها عند طلبها، فتظهر الشاشة وتزول بالانتقال إلى غيرها، وعليه فيجوز مس الجوال أو الشريط الذي سجل فيه القرآن، وتجوز القراءة منه، ولو من غير طهارة.



سادساً: القدرة على الصيام:

إن من شروط وجوب الصيام القدرة والاستطاعة عليه، فلا يجب الصوم على غير القادر عليه. فديينا ولله الحمد مبني على التيسير ورفع الحرج، قال تعالى: " مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: 78). وقال أيضاً: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " (البقرة:185).

ولابد لنا أن نبين هنا حكم صوم المريض، والشيخ الكبير والمرأة العجوز، والحامل والمرضع، ومن لا يقدر على الصيام، وذلك على النحو التالي:

صوم المريض:

1.    إذا مرض الصائم مرضاً لا يضره فيه الصوم ولا يشق عليه ولا يتأذى إن صام، مثل الزكام أو الصداع اليسيرين، أو وجع الضرس، وما شابه، فلا يجوز له أن يفطر، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة؛ وذلك لأن المريض إذا لم يتأذَّ بالصوم كان كالصحيح فيلزمه الصيام.

2.    إذا مرض المريض مرضاً يشق عليه الصوم فيجوز له الفطر، وعليه القضاء بعد شفائه إن كان مرضه يرجى برؤه منه ولا يجوز له الإطعام؛ إذ الواجب عليه القضاء بعد شفائه، قال تعالى: "وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" (البقرة:185).

3.    أما إذا كان مرضه مزمن لا يرجى برؤه ويشق عليه الصوم يفطر ويطعم عن كل يوم أفطر فيه مسكيناً، قال تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" (البقرة: 184).

4.    إذا كان المرض يشق على الصائم مشقة شديدة ويضر به، وخشي الهلاك بسببه، فالفطر عليه واجب، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، قال تعالى: " وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " (النساء:29)، وقال أيضاً: " وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ " (البقرة:195).

5.    إذا زال مرض من أفطر أثناء نهار رمضان كوقت الظهيرة مثلاً، لا يحسب له هذا اليوم إن صامه؛ لأنّه كان مفطراً في أوّل النهار، والصوم الواجب لا يصحّ إلاّ منْ طلوع الفجر، واختلف أهل العلم في إمساكه بقية اليوم على قولين:

القول الأول: لا يلزمه إمساك بقية اليوم، وهو قول المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار ابن عثيمين؛ وذلك لأنه لا دليل على وجوب الإمساك. ولأنه لا فائدة من هذا الإمساك، وذلك لوجوب القضاء عليه. كما أن حرمة الزمن قد زالت بفطره أول النهار.

القول الثاني: يلزمه الإمساك، وهو قول الحنفية، والحنابلة، ووجه عند الشافعية؛ وذلك لأن المريض صار من أهل الوجوب حين زوال مرضه؛ فيمسك تشبُّهاً بالصائمين وقضاءً لحق الوقت.

وعليه فإن في مسألة الإمساك سعة بفضل الله تعالى، لكن الأمر المهم هنا أنه يجب عليه قضاء الأيام التي أفطر فيها، بما فيها هذا اليوم الذي لم يصمه من طلوع الفجر.

مسألة: من كان مرضه مزمناً وأفطر في رمضان وأطعم عن كل يوم مسكيناً، وبعدها بسنين شفاه الله من مرضه، هل يُلزم بالقضاء؟

من كان مرضه يُعتبر مزمناً فأفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً ثم شفاه الله بعد ذلك، فلا يلزمه قضاء؛ لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه، وقد برئت ذمته بإخراج الفدية، وهذا قول الشافعية والحنابلة في المعتمد عندهم، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وأفتت به اللجنة الدائمة.  

فقد سُئل علماء اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله عن امرأة مريضة قلب أفطرت ستة رمضانات وأطعمت عن كل يوم مسكيناً، وبعدها شفاها الله تعالى، هل عليها القضاء أم أجزأها الإطعام (الفدية) ؟

فأجابوا: " يجزئها ما أخرجته من الفدية فيما مضى عن كل يوم أفطرته، ولا يجب عليها قضاء تلك الشهور؛ لأنها معذورة وقد فعلت ما وجب عليها في حينه ".

صوم الشيخ الكبير والمرأة العجوز:

يباح الفطر للشيخ الكبير أي الطاعن في السن، وكذلك للمرأة العجوز إن كانا لا يقدران على الصوم، ويطعمان عن كل يوم يفطران فيه مسكيناً، قال الله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" (البقرة: 184).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: " هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكيناً " (رواه البخاري).

صوم الحامل والمرضع:

1.    يباح للحامل والمرضع الفطر في رمضان حال عدم القدرة على الصيام، سواء خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزَّ وجلَّ  وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام " (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال عنه الألباني: حسن صحيح).

2.    إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على نفسيهما أو على نفسيهما وولديهما معاً فعليهما القضاء فقط بإجماع أهل العلم كما ذكر ابن قدامة والنووي رحمهما الله تعالى.

3.    إذا أفطرت الحامل أو المرضع خوفًا على ولديهما فقط، فقد اختلف أهل العلم فيما يترتب عليهما على عدة أقوال، أهمها قولان:

القول الأول: عليهما القضاء والفدية (إطعام عن كل يوم مسكينًا)، وبه قال الشافعي وأحمد، ووافق المالكية هذا القول في المرضع.

القول الثاني: عليهما القضاء فقط ولا فدية عليهما، وهو مذهبُ الحنفيَّة، واختار ذلك ابن باز، وابن عثيمين، وبه أفتت اللجنة الدائمة، ووافق المالكيَّة هذا القول في الحامل.

مسألة: هل يجوز للمجاهد في سبيل الله أن يفطر إن كان الصوم يضعفه ويشق عليه أثناء قتاله أعداء الدين؟

نعم، يجوز الفطر للمجاهد في سبيل الله خلال قتاله الأعداء إن كان الصوم يضعفه ويشق عليه، وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عثيمين وغيرهم.

وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المجاهدين المسلمين بالفطر في رمضان في المعركة التي كانت بين المسلمين والتتار سنة 702هـــــ وكان النصر فيها للمسلمين وهي تسمى بــــ(معركة شقحب أو معركة مرج الصُّفر). قال الإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأفتى الناس بالفطر –يقصد ابن تيمية رحمه الله- مدة قتالهم وأفطر هو أيضاً، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل، فيأكل الناس ".



مسألة مهمة: كيفية إخراج الفدية ومقدارها ووقتها:

فدية الإفطار للمريض مرض لا يرجى برؤه والعاجز عن الصيام تكون بالإطعام عن كل يوم أفطر فيه مسكيناً، قال تعالى: " قال الله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" (البقرة: 184).

كيفية إخراج الفدية على النحو التالي:

1.    قول جمهور العلماء: أن يطعم العاجز عن كل يوم مسكيناً من قوت البلد، ولا يجزئ إخراج القيمة نقداً عند الجمهور. وقوت البلد قديماً كان البُرّ (القمح) والتمر والشعير، أما في زماننا قوت البلد الطحين (الدقيق) والأرز وغيرهما.

2.    واختلف العلماء في مقدار ما يطعمه العاجز عن الصيام للمسكين عن كل يوم، فذهب المالكية والشافعية أن مقدار الفدية (مُدّ من طعام) أي ربع صاع وهو ما يعادل (750) جراماً تقريباً؛ إذ إن الصاع ثلاثة كيلو جرام تقريباً كما بينت اللجنة الدائمة.

3.    وذهب الحنفية إلى أن مقدار الفدية صاع (3 كليو جرام تقريباً)؛ إلا من البُرّ (القمح) فنصف صاع (كيلو جرام ونصف تقريباً).

4.    وذهب الحنابلة إلى أن مقدار الفدية نصف صاع (كيلو جرام ونصف تقريباً)؛ إلا من البُرّ (القمح) فمُدّ (750 جرام تقريباً).

5.    وأفتى العلامتان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله بأن مقدار الفدية نصف صاع من قوت البلد أي ما يعادل كيلو جرام ونصف تقريباً، وعلى هذا فتوى اللجنة الدائمة، فقالت في إحدى فتاويها: " فيخرج الكبير أو المريض الذي لا يرجى شفاؤه عن كل يوم طعام مسكين ، نصف صاع من بر أو تمر أو أرز أو نحو ذلك من قوت البلد. وهو ما يعادل كيلو ونصفاً تقريباً ". ولما سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ما مقدار الإطعام؟ فقال: يعطى كل مسكين نصف صاع، هذا هو الأحوط، نصف صاع من الطعام المعتاد في البلد ".

6.    ويستحب أن يكون مع الطعام إدام أو لحم ونحوه، قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ".

7.    أجاز جمهور العلماء أن يصنع طعاماً يكفي عن ثلاثين يوماً أو عدد الأيام التي أفطر فيها، ويدعو المساكين ويطعمهم، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن باز وابن عثيمين والشنقيطي، وأفتت بذلك اللجنة الدائمة.

8.    فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: " أَنَّهُ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ عَامًا, فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَدَعَا ثَلاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ " (رواه الدارقطني وصححه الألباني).

9.    وقال البخاري في صحيحه: " وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِذَا لَمْ يُطِقْ الصِّيَامَ فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَفْطَرَ ".

10.                       ونقل الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه المغني أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، سُئل عن امرأة أفطرت رمضان؟ فقال: كم أفطرت؟ قال السائل: ثلاثين يوماً. قال الإمام: اجمع ثلاثين مسكيناً وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم، قال السائل: ما أطعمهم؟ قال الإمام: خبزاً ولحماً إن قدرت من أوسط طعامكم ".

11.                       وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى الكبرى في الإطعام في كفارة اليمين: " وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزاً وأدماً من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإن الله تعالى أمر بإطعام، ولم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة ".

12.                       وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: " وإذا عشيت مسكيناً أو غديته بعدد الأيام التي عليك كفى ذلك ".

13.                       أجاز الحنفية إخراج القيمة بدلاً من الطعام؛ لأن الهدف دفع حاجة المسكين، وهذا يحصل بدفع القيمة له، بل دفع القيمة يحصل به المقصود على وجه أتم وأكمل؛ لأنه أقرب إلى دفع الحاجة، فيجزئ.

14.                       ووافق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول إذا كان في إخراج القيمة حاجة ومصلحة للمساكين، فقال رحمه الله في كتابه مجموع الفتاوى: " وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ الْعَدْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ".

لا يجوز إخراج الفدية قبل بداية شهر رمضان؛ لعدم حلول أجل استحقاقها، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء القائلين بوجوب إخراج الفدية للعاجز عن الصيام، قال الإمام النوري رحمه الله في كتابه المجموع: " اتفق أصحابنا علي أنه لا يجوز للشيخ العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه تعجيل الفدية قبل دخول رمضان ".

يجوز إخراج الفدية آخر شهر رمضان أو إخراج فدية كل يوم بيومه خلال اليوم أو بعد انتهائه. أما إخراج الفدية في أول شهر رمضان عن جميع الشهر أو إخراج الفدية عن يوم قبل طلوع فجره، فغير جائز على قول أكثر أهل العلم؛ لما في ذلك من تقديم الفدية على سبب وجوبها.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " أما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه. وهل يقدم الإطعام قبل ذلك؟ الجواب: لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟ الجواب: لا يجزئ ".

يجوز أن تدفع الفدية لمسكين واحد أو أكثر، ويجوز أن تدفع مجتمعة أو متفرقة، فيجوز أن يدفع فدية كل يوم بيومه لمسكين، ويجوز أن يخرج فدية يومين لمسكين، وفدية ثلاثة أيام لمسكين، ويجوز أن يدفع فدية الثلاثين يوماً لمسكين واحد، ففي الأمر سعة بفضل الله تعالى، المهم أن يكون إخراج الفدية بعد وجوبها أي بعد دخول اليوم الذي سيفطره العاجز عن الصيام.

يشترط في إخراج الفدية النية عند إخراجها، فلو أن رجلاً عاجزاً عن الصيام أقرض (داين) مسكيناً مبلغاً من المال، وعند حلول السداد، قال المسكين للدائن: لا أملك ما أسدك به الدين، فقال له الدائن: لا أريد هذا المال سامحتك لوجه الله تعالى، ونوى أن يكون المال فدية عن إفطاره في رمضان، لم يجز له ذلك؛ لعدم وجود النية عند إخراج الفدية، فالفدية عبادة، ومن شرط صحتها النية.

وسئل الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي: " هل يلزم الشيخ الهرم إذا عجز عن الصوم وأخرج الفدية  النية أم لا؟ فأجاب: بأنه تلزمه النية لأن الفدية عبادة مالية كالزكاة والكفارة فينوي بها الفدية لفطره ".

وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي رحمه الله في كتابه الفروع: "  والنية شرط ... ولو نوى صدقة مطلقة لم يجزئه ولو تصدق بجميع ماله ".

لا يجزئ إخراج الفدية لغير المساكين، فلو أخرجها لمن حالهم متيسرة لم يجز ذلك، قال الإمام الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله في كتابه مغني المحتاج: " والمسكين: من قدر على مال أو كسب ... ولا يكفيه  ذلك المال أو الكسب كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا سبعة أو ثمانية ".

ويدخل في معنى المسكين الفقير، بل هو أعوز وأكثر حاجة من المسكين على قول جمهور أهل العلم. قال الإمام النووي في كتابه المجموع: " متى أطلق الفقراء أو المساكين تناول الصنفين، وإن جمعا أو ذكر أحدهما ونفى الآخر وجب التمييز حينئذٍ، ويحتاج عند ذلك إلى بيان النوعين أيهما أسوأ حالاً، والمشهور عندنا وهو الذى نص عليه الشافعي وجماهير أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن الفقير أسوأ حالاً ".

لا يجوز إخراج الفدية لكافر، فالفدية من الصدقات الواجبة، ولا يجزئ دفعها إلا إلى مسلم من الفقراء أو المساكين، وهذا قول جمهور العلماء، جاء في حاشية البجيرمي الشافعي عن إخراج الفدية لمن عجز عن الصوم: " فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِكَافِرٍ ". وجاء في كتاب كشاف القناع للإمام البهوتي الحنبلي: "وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا أَيْ: الْكَفَّارَةَ إلَى كَافِرٍ كَالزَّكَاةِ ".

فائدة: يجوز إخراج صدقة التطوع للكافر الذي لا يحارب المسلمين ولا يعتدي عليهم، وإن كان إخراجها للمسلم أولى وافضل. قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: " ولا بأس أن يتصدق على المشرك من النافلة، وليس له في الفريضة من الصدقة حق ".

وقال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: " يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ بِصَدَقَتِهِ الصُّلَحَاءَ، وَأَهْلَ الْخَيْرِ، وَأَهْلَ الْمُرُوءَاتِ وَالْحَاجَاتِ، فَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَاسِقٍ أَوْ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ، وَكَانَ فِيهِ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ ".

لا يجوز إخراج الفدية لمن تجب عليهم النفقة، وهم الأصول (كالأبوين) والفروع (كالأبناء) والزوجة. قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: " ويعطي الكفارات والزكاة كل من لا تلزمه نفقته ". وجاء في الموسوعة الفقهية في بيان شروط من تدفع إليهم الكفارة عند الفقهاء ما نصه: " أن لا يكون من تصرف إليه الكفارة ممن يلزم المكفر نفقته، كالأصول والفروع ".

القريب الذي لا تلزم نفقته إذا كان فقيراً أو مسكيناً فهو أولى بإخراج الفدية إليه من غيره؛ لأن القريب أولى بالبر والإحسان، فعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني).

إذا كان العاجز عن الصيام فقيراً أو مسكيناً (معسراً) لا يستطيع دفع الفدية، فاختلف أهل العلم في سقوطها عنه، بعضهم قال: لا تسقط عنه الفدية، بل تجب في ذمته فإذا أيسر وجب عليه إخراجها، وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح من مذهبهم، والحنابلة على الصحيح من مذهبهم.

وذهب بعضهم إلى أنه تسقط الفدية إن كان العاجز عن الصيام معسراً حال وجوبها عليه، ولا تجب عليه حتى لو أيسر فيما بعد، وهذا ظاهر مذهب الحنفية، وهو قول عند الشافعية رجحه الإمام النووي، وهو قول عند الحنابلة اختاره الإمام ابن قدامة، وأفتى به ابن باز؛ لأنها فدية وجبت بغير جناية من العبد فسقطت بإعساره.

إلا أني أقول الأحوط إخراج الفدية إن أيسر خروجاً من الخلاف، ولزوال مبرر سقوط الفدية، وشعوراً بإبراء الذمة، والله أعلم.

سابعاً: النية:

النية شرط من شروط صحة الصيام كسائر العبادات، فمن امتنع عن المفطرات لمرض أو لعدم اشتهاء الطعام أو الشراب أو الجماع، أو بغرض الرياضة وتخفيف الوزن، فلا يعد صائماً؛ إذ إن النية شرط من شروط صحة الصيام.

النية شرط لصحة الصيام وليست ركنا، وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية والحنابلة وبعض المالكية، وذهب الشافعية وبعض المالكية إلى أن النية ركن من أركان الصيام. والفرق بين الركن والشرط: أن الركن يكون جزءاً من الشيء كالسجود والركوع في الصلاة، أما الشرط فلا يكون جزءاً من الشيء كالطهارة واستقبال القبلة في الصلاة، ومع هذا فالنية بالنسبة للصيام لازمة عند الجميع ولابد من وجودها سواء اعتُبرت ركناً أم شرطاً، فالصلاة  لا تصح من غير طهارة ولا تصح بدون استقبال القبلة للقادر، وكذلك الصيام لا يصح      بدون نية.

لا يشترط التلفظ بالنية فإنها عمل قلبي لا دخل للسان فيه، وحقيقتها القصد إلى الفعل امتثالاً لأمر الله تعالى، وتتحقق النية بالقيام في وقت السحر وتناول الطعام والشراب في ذلك الوقت، لا سيما لمن لم يكن هذا بعادة له في غير أيام الصوم، لأن النية هي القصد إلى الشيء أو الإرادة له، وهذا قد حصل له القصد المعتبر. وتتحقق النية لمن عزم في أي جزء من أجزاء الليل على الكف عن المفطرات أثناء النهار وإن لم يتسحر.

ويشترط لوقوع النية صحيحة في الصيام الواجب كصوم رمضان الشروط التالية:

1.    الجزم في النية: فمن تردد في نية الصوم الواجب، هل يصوم غداً أو لا يصوم، واستمر هذا التردد إلى الغد، ثم صامه، فصومه غير صحيح، وعليه قضاء هذا اليوم، وهذا قول جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول بعض الحنفية.  وذلك لأن هذا مخالف لشرط من شروط صحة الصوم وهو النية، التي هي عقد القلب على فعل الشيء، والتردد ينافي ذلك، ومتى اختل هذا الشرط فسد الصوم، ووجب القضاء. قال الإمام الحجاوي المقدسي الحنبلي في كتابه الإقناع: " ومن قال أنا صائم غداً إن شاء الله: فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد، فسدت نيته وإلا لم تفسد إذا قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره ".

2.    تعيين النية: فلابد من تعيين النية في صوم الواجب كصوم رمضان، ولا يكفي مطلق الصوم، ولا تعيين صوم معين غير رمضان، وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة. قال الإمام النّووي رحمه الله في كتابه روضة الطالبين وعمدة المفتين: " وكمال النية في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى ".

تبييت النية: يجب تبييت النية في الصيام الواجب (كصوم رمضان وقضاء رمضان وصيام الكفارات والنذور)، في الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة، فعن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له " (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني). وفي رواية أخرى: " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " (رواه النسائي والبيهقي وصححه الألباني).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه شرح عمدة الفقه: " أما تبييت النية فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل، سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين، وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق".





مسألة: هل يشترط تجديد النية في كل يوم من رمضان ؟

اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

القول الأول: يشترط تجديد النية لكل يوم من رمضان، وهو قول الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة في المعتمد من مذهبهم، وهو قول ابن المنذر، واختيار ابن حزم، وابن باز، وأفتت به اللجنة الدائمة؛ وذلك لعموم حديث حفصة السابق ذكره، ولأن كل يوم عبادة مستقلة لا يرتبط بعضه ببعض، ولا يفسد بفساد بعضه، ويتخللها ما ينافيها.

القول الثاني: لا يشترط تجديد النية لكل يوم من رمضان، بل تكفي نية واحدة أول الشهر، وهو مذهب المالكية، وبعض الحنفية، ورواية عند الحنابلة، واختاره ابن عثيمين؛ لأنَّ ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله، فإذا انقطع التتابع لعذر يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فإنَّ عليه أن يجدد النية. وذلك لأن الصوم المتتابع كالعبادة الواحدة من حيث ارتباط بعضها ببعض وعدم جواز التفريق، ولذا تكفي النية الواحدة. كما أنَّ النية إذا لم تقع في كل ليلة حقيقة، فهي واقعة حكماً؛ لأن الأصل عدم قطع النية.

مسألة: هل يشترط تبييت النية من الليل في صيام التطوع ؟

لا يشترط في صيام التطوع تبييت النية من الليل عند جمهور أهل العلم من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

ويجوز أن ينوي أثناء النهار، سواء قبل الزوال أم بعده، إذا لم يتناول شيئاً من المفطرات بعد الفجر، وهذا مذهب الحنابلة، وقولٌ عند الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عثيمين. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: " دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم " (رواه مسلم).

وأيدوا استدلالهم بأن هذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت إنشاء نية صوم التطوع من النهار عن: ابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وأبي الدرداء وحذيفة وأبي طلحة رضي الله عنهم.

استمرار النية: فإذا نوى الصائم جازماً الإفطار في نهار رمضان، فقد أفطر وإن لم يتناول شيئا من المفطرات، وعليه القضاء، وذهب إلى ذلك المالكية، والحنابلة، وهو قولٌ عند الشافعية، واختاره ابن عثيمين؛ وذلك أن النية شرط من شروط صحة الصيام، وينبغي استمرارها طيلة فترة الصوم، فإذا انقطعت النية انقطع الصوم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات " (أخرجه البخاري ومسلم).

والتردد في الفطر لا يفسد به الصوم، فإن قال الرجل في نفسه أُفطر أو لا أًفطر لم يكن مفطراً بذلك حتى يعزم عزماً جازماً على الفطر؛ وذلك لأن الأصل صحة نيته واستصحاب حكمها، فلا يزول يقين النية إلا بيقين فسخها؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك.



الفصل الرابع

أركان الصيام وسننه

المبحث الأول: أركان الصيام:                

ركن الصيام الأساسي (الإمساك عن سائر المفطِّرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس)، فيجب على الصائم أن يمتنع عن كل ما يبطل صومه من الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس. قال تعالى: " فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ " (البقرة:187).

وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ " (رواه البخاري ومسلم).

ملاحظات مهمة:

1.    مَن طلع عليه الفجر وفي فمه طعام، فعليه أن يلفظَه ويخرجه من فمه، ويُتمَّ صومه، فإنِ ابتلعه بطَل صومُه، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابلة؛ وذلك لأنَّه ابتلع طعامًا باختياره مع أنَّه يُمكنه لفظُه؛ فيُفطر بذلك.

2.    يجب على الصائم الإمساك من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، سواءً أطال النهار أم قصر إذا كان الليل والنهار يتعاقبان خلال أربع وعشرين ساعة، لكن لو شقَّ الصوم في الأيام الطويلة مشقة غير محتملة ويخشى منها الضرر أو حدوث مرض، فإنه يجوز الفطر حينئذ، ويقضي المفطر في أيام أُخر يتمكن فيها من القضاء؛ وبهذا أفتى الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي.

3.    إن كان في بلدٍ لا يتعاقب فيه الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة كبلد يكون نهارها مثلاً: يومين، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو أكثر من ذلك، فإنه يقدر للنهار قدره، ولليل قدره بأن تحسب مدة الليل والنهار اعتماداً على أقرب بلدٍ منه، يكون فيه ليل ونهار يتعاقبان في أربع وعشرين ساعة، وبهذا أفتى الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي.

مسألة مهمة: حكم من أكل ظاناً غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر:

اتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر الصائم في شهر رمضان، ظاناً أن الشمس قد غربت، ثم تبين له أنها لم تغرب أو أكل ظاناً عدم طلوع الفجر ثم تبين له أن الفجر قد طلع، فإنه يلزمه الإمساك حتى غروب الشمس حقيقة.

ولكن اختلفوا في قضائه لهذا اليوم على قولين:

القول الأول: أن عليه القضاء، وهذا باتفاق أصحاب الأئمة الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وأفتى به الشيخ ابن باز رحمه الله، وعليه فتوى اللجنة الدائمة، وهو الأحوط.

القول الثاني: أنه لا قضاء عليه، وهو قول ابن حزم، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والشيخ ابن عثيمين؛ لأنه أكل أو شرب جاهلاً مخطئاً والخطأ معفوٌّ عنه.

ملاحظة: الخلاف في المسألة السابقة لمن غلب على ظنه غروب الشمس أو طلوع الفجر، أما إذا كان شاكّاً متردداً لم يغلب على ظنه، فأكل لمجرد الشك المتردد قبل غروب الشمس وتبين له عدم غروبها أو أكل بعد طلوع الفجر وتبين له طلوعه، فإنه يأثم وعليه القضاء باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة.

المبحث الثاني: سنن الصيام وآدابه:

1.    السحور:

يسن للصائم أن يتسحر؛ لما فيه من البركة واتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي على العبادة، وزيادة النشاط بدفع الجوع والعطش، وتدارك نية الصيام لمن أغفلها قبل أن ينام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تسحَّروا، فإن في السحور بركة " (رواه البخاري ومسلم). وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصل (أي الفرق) ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور " (رواه مسلم).

ويتحقق السحور ولو بجرعة ماء، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " (رواه أحمد وحسنه الألباني).

ولو جعل في السحور تمراً فهو أفضل، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نِعْمَ سحور المؤمن التمر" (رواه أبو داود وصححه الألباني).

2.    تأخير السحور:

يسن للصائم تأخير السحور، لحديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: "تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة"، قلت: كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية" (رواه البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: "قدر خمسين آية؛ أي: متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة".

3.    تعجيل الفطر:

يسن للصائم تعجيل الفطر إذا تحقق من غروب الشمس، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " (رواه البخاري ومسلم).

4.    أن يفطر على الرطب أو التمر أو الماء:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من الماء " (رواه أبو داود والترمذي وأحمد وقال عنه الألباني: حسن صحيح).

ملاحظة: من أخطاء الصائمين أن بعضهم يمص أصبعه إن لم يجد شيئا يفطر عليه، والأصل أن لا يفعل الصائم ذلك، بل ينوي الفطر بقلبه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " من لم يجد رطباً ولا تمراً ولا ماء، فليفطر على ما تيسر من مأكول أو مشروب، ومن لم يجد شيئا يفطر عليه فإنه ينوي الفطر بقلبه، ولا يمص إصبعه، أو يجمع ريقه ويبلعه كما يفعل البعض ".

5.    دعاء الفطر:

يسن للصائم أن يدعو عند فطره بدعاء مخصوص، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: " ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " (رواه أبو داود وحسنه الألباني).



6.    تفطير الصائم:

يستحب تفطير الصائم، فمن فطَّر صائماً كان له مثل أجره، فعن عَنْ زَيْدِ بْن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ فطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غيْرَ أَنَّه لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِم شيْئًا " (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني). وعنه رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ: " من فطَّر صائمًا أو جهز غازيًا؛ فله مثل أجره " (رواه البيهقي وصححه الألباني).

7.    الإكثار من فعل الخيرات:

ينبغي على الصائم أن يحرص على الإكثار من أداء الطاعات وفعل الخيرات، خصوصاً في شهر رمضان، ومن هذه الطاعات: قيام الليل والاعتكاف وذكر الله وقراءة القرآن والتصدق وجميع النوافل، فعن ابن عباس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة " (رواه البخاري ومسلم).

8.    ما يقوله الصائم إن سابه أحد أو قاتله:

ينبغي على الصائم أن يترفع عن جميع المعاصي الظاهرة والباطنة، وسبق أن بينا عند حديثنا عن مراتب الصيام خطورة أن يصوم المسلم عن المباحات ويقع في المحرمات أثناء صيامه، فينبغي على الصائم أن لا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابه أحد أو قاتله يقول له: (إني صائم)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم " (رواه البخاري ومسلم).

9.    ما يفعله الصائم إذا دعي إلى طعام:

إذا دعي الصائم إلى طعام فليقل: إني صائم، سواء كان صوم فرض أم نفل، وليدعُ لصاحب الطعام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم " (رواه مسلم). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم " (رواه مسلم). معنى فليصل: أي فليدعُ لصاحب الطعام.





الفصل الخامس

مباحات الصيام ومكروهاته

المبحث الأول: مباحات الصيام:

1.    تأخير الاغتسال للجنب والحائض إلى طلوع الفجر:

يباح للجنب أن يؤخر الاغتسال من الجنابة إلى طلوع الفجر، فعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: " أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ " (رواه البخاري ومسلم). وكذلك يباح للحائض إذا طهرت أن تؤخر الاغتسال من الحيض إلى طلوع الفجر قياساً على الجنب، وذلك باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

2.    المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة:

تباح للصائم المضمضة والاستنشاق من غير مبالغة، وذلك بإجماع أهل العلم؛ لأن الفم والأنف في حكم الظاهر من الوجه لا يبطل الصوم بالواصل إليه.

3.    اغتسال الصائم أو صب الماء على رأسه من الحر أو العطش:

يباح للصائم أن يغتسل أو يصب الماءَ على رأسه من الحر أو العطش، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة. ثبت عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر " (رواه أبو داود وصححه الألباني). والعَرْجُ : قرية على الطريق بين مكة والمدينة .

4.    ذوق الطعام عند الحاجة:

يباح للصائم ذوق الطعام عند الحاجة، كمعرفة استوائه أو مقدار ملوحته أو عند شرائه لاختباره بشرط أن يقذفه من فمه بعد ذلك أو يغسل فمه ويتمضمض، بحيث لا يصل الطعام إلى الجوف فيفطر، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه مجموع الفتاوى: "ذوق الطعام يكره بغير حاجة لكنه لا يفطره، أما للحاجة فهو كالمضمضة ".

5.    القبلة والملامسة وما شابههما لمن ملك نفسه:

يباح للصائم أن يقبل زوجته أو يلامسها وما شابه ذلك إن كان يملك نفسه ويتحكم بشهوته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه أملككم لإربه " (رواه مسلم). قولها: (يباشر): المباشرة هي الملامسة وما شابهها، وقولها: (أملككم لإربه): أي أملك لنفسه ولشهوته.

وعنها رضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُنِي وَهُوَ صَائِمٌ وَأَنَا صَائِمَةٌ " (رواه أبو داود وصححه الألباني).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "هَشَشْتُ -أي نشطت وارتحت واشتهيت- فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتُ الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا، )قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ، قُلْتُ: "لَا بَأْسَ بِهِ"، قَالَ : فَمَهْ " (رواه أبو داود وصححه الألباني) .

6.    استعمال السواك:

اتفق الفقهاء على جواز استعمال السواك للصائم؛ وذلك لعموم الأحاديث الواردة في استحباب السواك، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي قال: " السِّواكُ مَطهرةٌ للفمِ مرضاةٌ للرَّبِّ " (رواه النسائي وصححه الألباني).

ملاحظة: استحب الشافعية والحنابلة في المشهور من مذهبهم، ترك الصائم لاستعمال السواك بعد الزوال (وقت الظهر)، للإبقاء على رائحة الخلوف التي هي أطيب عند الله من ريح المسك.

ويرى غيرهم من العلماء بجواز استعمال السواك في أي وقت، سواء كان قبل الزوال أم بعد الزوال، وذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومالك، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، وابن باز، والألباني، وابن عثيمين، رحمهم الله أجمعين.

مسألة: هل يجوز للصائم أن يستعمل معجون الأسنان أثناء صيامه؟

يجوز للصائم أن يستعمل الصائم فرشاة ومعجون الأسنان، لكن ينبغي الحذر من نفاذه إلى الحلق، والأفضل تركه بالنهار وفعله بالليل، أفتى بذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى، وذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:  " استعمال المعجون للصائم لا بأس به إذا لم ينزل إلى معدته، ولكن الأولى عدم استعماله، لأن له نفوذاً قويًّا قد ينفذ إلى المعدة والإنسان لا يشعر به، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ: بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً، فالأولى ألا يستعمل الصائم المعجون، والأمر واسع، فإذا أخره حتى أفطر فيكون قد توقى ما يُخشى أن يكون به فساد الصوم ".



المبحث الثاني: مكروهات الصيام:

1.    المبالغة في المضمضة والاستنشاق:

المبالغة في المضمضة: إدارة الماء في أعماق الفم وأقاصيه وأشداقه، والمبالغة في الاستنشاق: اجتذاب الماء بالنّفس إلى أقصى الأنف‏.‏ وقال النووي في كتابه المجموع: " المبالغة في المضمضة والاستنشاق –يقصد لغير الصائم- سنة بلا خلاف". أمّا للصّائم فالمبالغة فيهما مكروهة؛ لحديث لَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ "إذا توضَّأْتَ فأسبِغِ الوضوءَ وخلِّلْ بينَ الأصابعِ وبالِغْ في الاستنشاقِ إلَّا أنْ تكونَ صائماً " (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني)‏.‏

الوصال في الصوم:

وسبق الحديث عنه عند حديثنا عن الصوم المكروه كقسم من أقسام الصيام.

ذوق الطعام لغير حاجة:

يكره ذوق الطعام لغير حاجة، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة؛ وذلك لأنه ربما ينزل شيء من هذا الطعام إلى جوف الصائم من غير أن يشعر به، فيكون في ذوقه لهذا الطعام تعريض لفساد الصوم.

وسبق أن ذكرنا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه مجموع الفتاوى: "ذوق الطعام يكره بغير حاجة لكنه لا يفطره، أما للحاجة فهو كالمضمضة ".



2.    القبلة والملامسة وما شابههما لمن تتحرك شهوته:

1.    يكره للصائم أن يقبل زوجته أو أن يلامسها إذا كانت شهوته تتحرك بسرعة؛ لأنه يخشى على نفسه من الوقوع في الحرام وفساد الصيام، سواء بالجماع في نهار رمضان، أو بنزول المني منه، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

2.    عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له. وأتاه آخر فسأله، فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب " (رواه أبو داود وقال عنه الألباني: حسن صحيح). يقصد بالمباشرة في الحديث أي الملامسة وما شابهها ولا يقصد بها الجماع، ونهي النبي الشاب ورخص للشيخ أي الكبير في السن؛ لأن الشاب أكثر عرضةً من الشيخ لأن يفسد صومه، بسبب قوة شهوته.





الفصل السادس

مبطلات الصيام

المبحث الأول: ما يبطل الصيام ويوجب القضاء:

1.    تناول الطعام والشراب عمداً:

إذا أكل الصائم أو شرب متعمداً غير ناسٍ مختاراً عالماً بالتحريم، يأثم ويبطل صومه، وعليه أن يمسك بقيه يومه باتفاق الأئمة الأربعة، ويجب عليه القضاء. أما الكفارة فلا تجب عليه، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، ورجحه ابن المنذر، والنووي، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة.

إذا أكل الصائم أو شرب ناسياً أثناء النهار، فإنه يتم صومه ولا قضاء عليه سواءً أكان يصوم رمضان أم يصوم يوماً تطوعاً، وهذا قول جمهور العلماء، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي –وهو صائم- فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" (رواه البخاري ومسلم).

من رأى صائماً يفطر ناسياً عليه أن ينبهه ويذكره أنه صائم، فإن تعاطي الشرب والأكل وغيرهما من المفطرات في نهار رمضان من المنكر الذي لا يجوز إقراره ولا السكوت عليه، لذا يجب على من رأى صائماً في نهار رمضان يتناول مفطراً أن ينبهه لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى ومن تغيير المنكر، وكون من يأكل أو يشرب ناسياً ليس عليه إثم لا يرفع الإثم عن مَن شاهده ولم ينبهه، وبذلك أفتى بذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وغيرهما.

من ابتلع ما بين أسنانه وهو صائم من غير اختيار منه، وكان يسيراً لا يمكن لفظه مما يجري مع الريق فصومه صحيح بإجماع أهل العلم؛ لأنه لا يمكن التحرز منه, فأشبه الريق.

أما إذا كان يُمكنه لفظُه، فبلعه متعمداً، فإنَّه يُفطر، وهو قول جمهور العلماء؛ وذلك لأنَّه بلَع طعامًا يُمكنه لفظُه باختياره، ذاكرًا لصومه، فأفطر به، كما لو ابتدأ الأكْل.

إذا ابتلع الصائم ما لا يُؤكَلُ في العادة كدرهمٍ أو حصاةٍ أو خيطٍ أو غير ذلك متعمداً أفطر، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة. قال الإمام النووي في كتابه المجموع: " قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: إذا ابتلع الصائم ما لا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة، أو حشيشاً أو حديداً أو خيطاً أو غير ذلك: أفطر بلا خلاف عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف ".



2.    نزول المني عمداً في نهار رمضان بغير جماع:

إذا أخرج الرجل أو المرأة المني في نهار رمضان باستمناء (والاستمناء هو إخراج المني باليد وهو محرم شرعاً)، فسد الصوم ووجب القضاء، وهذا باتفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

إذا قبل الرجل زوجته أو لامسها فأنزل المني، فسد صومه وعليه القضاء، وهذا باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة.

من أنزل بتفكيرٍ دون عمل أو استمناء أو نظر إلى مُحَرَّم فلا يفطر، وهذا قول الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، غير أنه ينبغي على الصائم أن يصرف ذهنه عن كل ما من شأنه إفساد صومه.

ليس في إخراج المني في غير الجماع كفارة على قول جمهور العلماء؛ وذلك لأن حكم الكفارة إنما ورد في الجماع دون سواه.

من نام فاحتلم في نهار رمضان فأنزل المني فلا يفطر وصيامه صحيح، وذلك بإجماع أهل العلم؛ وذلك لأنه مغلوبٌ ولا اختيار له.

خروج المذي من الصائم لا ينقض صومه، وقد ذهب إلى ذلك الحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره ابن المنذر والصنعاني وابن باز وابن عثيمين؛ وذلك لأنه خارجٌ لا يوجب الغسل فأشبه البول، ولعدم ورود النص على كونه مفطراً، والأصل صحة الصوم؛ وكذلك لأن الشرع أباح التقبيل والمباشرة لمن يملك نفسه، والتي يكون حاصلها المذي.

فائدة:

للعلم نُفرق بين المنيُّ والمَذْي:

المني: هو ماء أبيض مائل للصفرة ثخين، يخرج دفقا عند اشتداد الشهوة، ويعقب خروجه فتور في الجسم، ورائحته تشبه طلع النخل أو رائحة العجين إذا كان رطباً، وإذا يبس يكون رائحته كرائحة بياض البيض الجاف، والمني يوجب الغسل، وهو طاهر على الراجح من أقوال العلماء.

المذي: ماء رقيق لزج شفاف لا لون له، يخرج عند الشهوة بدون تدفق، والمذي يوجب الوضوء، وهو نجس.

القيء عمداً:

مَن استقاء (أي استفرغ ما في معدته) متعمِّداً، فقد أفطر ووجب عليه القضاء ولا كفَّارة عليه، أما من غلبَه القيءُ أي خرج بدون إرادته، فلا يُفطر ولا شيء عليه، ولكن لا يجوز له أن يبتلع شيء منه فإن فعل فقد أفطر، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: " مَن ذَرَعه القيءُ، فلا قضاءَ عليه، ومَن استقاء فعليه القضاءُ " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). معنى ذرعه: أي خرج بغير اختياره.

فائدة:

التجشؤ لا يبطل الصوم، لكن إذا خرج من جوف الصائم شيء يجب أن يلفظه ويخرجه، وحبذا لو تمضمض بعده ليطهر فمه، فإن ابتلعه مع القدرة على لفظه فقد أفطر.

خروج دم الحيض أو النفاس:

1.    سبق أن بينا أن الطهارة من الحيض والنفاس شرط لوجوب وصحة الصيام، فالحائض والنفساء لا يجب عليهما الصيام ولا يصح منهما كذلك.

2.    فمن أصبحت صائمة فحاضت أو ولدت فصارت نفساء، فسد صومها وعليها القضاء كما بينا. ولا يلزمها إمساك باقي اليوم، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ وذلك لأنها ليست بأهل للصوم، والتشبُّهُ بأهل العبادة لا يصح من غير الأهل؛ ولأن الحيض لو كان موجودا في أول النهار لم تؤمر بالصيام.

تنبيه مهم:

نسمع أن بعض نساء المسلمين لا يقضين الأيام اللاتي يفطرن فيهن في شهر رمضان بسبب الحيض أو النفاس، وذلك تهاوناً وتكاسلاً ودون عذر، وإني أنصحهن أن يتقين الله تعالى ويتبن إليه، فتبقى الأيام التي لم يقضوها معلقة في رقابهم وهن آثماتٍ إثماً عظيماً لتهاونهن في أداء فريضة الصيام، ولا يَصْدُق عليهن أنهن يصمن رمضان، بل إنهن يصمن بعض رمضان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبناءً على قول جمهور العلماء –كما سنبين- إذا تأخرت المرأة عن قضاء الأيام التي أفطرت فيهن بدون عذر حتى دخل رمضان التالي، يجب عليها القضاء مع الفدية، وهي إطعام مسكينٍ عن كل يوم أفطرن فيه.

3.    الإغماء الذي يستغرق جميع الوقت:

وسبق بيانه عند حديثنا عن شرط العقل كشرط من شروط الصيام.

4.    الردة:

من ارتد أثناء صيامه فسد صومه وعليه قضاء هذا اليوم إن رجع إلى الإسلام، وهذا بإجماع أهل العلم. وبينا حكم قضاء ما تركه من الصيام زمن ردته عند حديثنا عن شرط الإسلام كشرط من شروط الصيام.

وأشير إلى نقطة مهمة هنا من كان صائماً وسب الذات الإلهية أو سب الدين أو سب الرسول أو نطق بلفظ ينقض إيمانه، فهذا قد ارتد والعياذ بالله وبطل صومه وأفطر، وعليه أن يرجع إلى الإسلام، فيغتسل (والغسل مستحب على قول الجمهور ما لم يكن حصلت له جنابة فيجب) وينطق بالشهادتين، ويستغفر الله ويتوب إليه من هذا الذنب العظيم، وعليه قضاء ذلك اليوم.

مسألة: يصوم ولا يصلي تكاسلاً فما حكمه ؟

من ترك الصلاة تكاسلاً فقد ذهب جمهور العلماء إلى اعتباره فاسقا مرتكباً لكبيرة من الكبائر وصيامه صحيح مع الإثم العظيم لتركه الصلاة.

وذهب الحنابلة في الصحيح عندهم والشافعية في قول إلى القول بكفر من لا يصلي بالكلية مستدلين بحديث جابر بن عبد الله حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:          " إنَّ بين الرجلِ وبين الشِّركِ والكفرِ تركُ الصلاةِ " (رواه مسلم)، وحديث بريدة بن الحصيب حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهدُ الّذي بيننا وبينَهمْ الصلاةُ، فمَنْ تركَها فقدْ كفَر" (رواه الترمذي وصححه الألباني).

والقول بكفر تارك الصلاة هو قول طائفة من السلف، ومنهم: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وغيرهم. واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن باز وابن عثيمين رضى الله عنهم أجمعين.

وعلى القول بكفر تارك الصلاة فإنه صومه لا يقبل منه ولا يجزئه؛ لأنه كافر، ومن كفر فقد حبط عمله والعياذ بالله، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " الصواب أن من ترك الصلاة كفر وإن لم يجحد وجوبها، هذا هو الحق فإذا كفر فلا صيام له ولا حج له، حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا صام وهو لا يصلي فإن صومه باطل، وحج وهو لا يصلي حجُّه باطل، لا يجزئه".

وعليه ينبغي على كل مسلم إذا رأى مَن يصوم ولا يصلي، أن ينصحه وينبهه ويبين له عقوبة ترك الصلاة وأثر ذلك على سائر عباداته. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول:  " إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإِذَا صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ خَابَ وَخَسِرَ " (رواه الترمذي وصححه الألباني).

نية الإفطار:

إذا نوى الصائم جازماً الإفطار في نهار رمضان، فقد أفطر وإن لم يتناول شيئا من المفطرات، وعليه القضاء، وذهب إلى ذلك المالكية، والحنابلة، وهو قولٌ عند الشافعية، واختاره ابن عثيمين؛ وذلك أن النية شرط من شروط صحة الصيام، وينبغي استمرارها طيلة فترة الصوم، فإذا انقطعت النية انقطع الصوم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الأعمال بالنيات " (أخرجه البخاري ومسلم).

والتردد في الفطر لا يفسد به الصوم، فإن قال الرجل في نفسه أفطر أو لا أفطر لم يكن مفطراً بذلك حتى يعزم عزماً جازماً على الفطر؛ وذلك لأن الأصل صحة نيته واستصحاب حكمها، فلا يزول يقين النية إلا بيقين فسخها؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك.

المبحث الثاني: ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة:

ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة، فهو الجماع لا غير، فإذا جامع الرجل زوجته في نهار رمضان متعمداً غير ناسٍ مختاراً عالماً بالتحريم بدون عذر، فسد صومه وعليه القضاء والكفارة، وهذا باتفاق أصحاب المذهب الأربعة.

أما جماع الرجل زوجته في ليل رمضان فهذا جائز، قال تعالى: " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ " (البقرة: 187). معنى الرفث في الآية: الجماع.



كفارة الجماع:

كفارة الجماع هي: عتق رقبة، فمن لم يجد ما يعتق به فعليه صيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصوم فعليه إطعام ستين مسكيناً، فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا ، قَالَ : فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ، وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ (وعاء يشبه القفة)، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ ؟ فَقَالَ : أَنَا، قَالَ: خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ (أي ما بين طرفي المدينة) أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ "  (رواه البخاري ومسلم).

ملاحظات:

كفَّارة من جامع في نهار رمضان تكون على الترتيب، فلا ينتقل إلى صيام الشهرين المتتابعين إلا إذا عجز عن عتق الرقبة، ولا يطعم ستين مسكينًا إلا إذا عجز عن الصيام، وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وأفتى به ابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة.

قال الأستاذ الدكتور وهبة الزُّحَيْلِيّ في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته: " الكلام في إعتاق الرقبة في كفارة اليمين وغيرها تاريخي فقط بسبب عدم وجود الرقيق في عصرنا ".

وقال الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد: " فك الأسير لا يعتبر عتق رقبة؛ لأنه لم ينقلها إلى الحرية، ولكن هذا فداء وتخليص من ولاية الكفار، ولا شك أن فيه أجراً عظيماً، لكن لا يقال له عتق، ولا يجزي في الكفارة ".

وعليه من جامع في نهار رمضان يكون حكمه ابتداءً على قول الجمهور صيام شهرين متتابعين، فإن عجز عن الصيام كان له إطعام ستين مسكيناً.

يجب على من جامع زوجته في نهار رمضان التوبة مما ارتكبه من عظيم الإثم، والواجب عليه أن يبادر بالكفارة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن عجزَ أطعم ستين مسكيناً، فالكفارة واجبةٌ على الفور على الصحيح، ولا يجوزُ تأخيرها إلا لعذر. قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: " وأما الكفارة فإن كانت بغير عدوان ككفارة القتل الخطأ وكفارة اليمين في بعض الصور فهي على التراخي بلا خلاف لأنه معذور. وإن كان متعدياً فهل هي على الفور أم على التراخي؟ فيه وجهان حكاهما القفال والأصحاب: أصحهما على الفور ".

وقال الإمام الزركشي رحمه الله في المنثور: " هل تجب على الفور؟ -يعني الكفارة- إن لم يتعد بسببه فعلى التراخي وإلا فعلى الفور ".

وبما أن كفارة الجماع وجبت بسبب تعدٍ وهو الجماع في نهار رمضان، كانت الكفارة على الفور إلا لعذر. فليحرص من وجبت عليه كفارة الجماع على عدم تأخيرها حتى مجيء رمضان الثاني لغير عذر، وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن صائم جامع زوجته في نهار رمضان، فأجاب: " إذا كان قادراً على الصيام فإن عليه صيام شهرين متتابعين، فالرجل إذا عزم على الشيء هان عليه، أما إذا منَّى نفسه الكسل وتثاقل الشيء فإنه يصعب عليه. الحمد لله الذي جعل في هذه الدنيا خصالاً نعملها تُسقط عنا عقاب الآخرة، فنقول للأخ: صُم شهرين متتابعين إذا كنت لا تجد رقبة واستعن بالله، وإذا كان الوقت الآن حارًّا والنهار طويلاً، فلك فرصة لأن تؤخره إلى أيام الشتاء أيام قصيرة والجو بارد ".

ينبغي على المسلم الذي وجبت عليه كفارة الجماع إذا لم يجد رقبة يعتقها أن يصوم شهرين متتابعين، ويشترط التتابع، فإذا أكل أو شرب أو جامع زوجته في نهار أحد أيام صيام الكفارة، انقطع التتابع، ووجب عليه أن يعيد صيام الشهرين المتتابعين من جديد.

من الأمور التي لا تقطع التتابع لمن صام شهرين متتابعين كفارة للجماع في نهار رمضان:

دخول شهر رمضان، فمن بدأ في الصوم ثم أدركه رمضان، صام رمضان وأفطر يوم العيد ثم أكمل صوم الشهرين، ولا يبدأ الصوم من أوله؛ لأن صوم رمضان لا يقطع التتابع .

دخول الأيام التي يحرم صيامها، فمن دخل عليه يوم يحرم فيه الصوم كيومي العيدين وأيام التشريق فإنه يفطر فيها، ثم يكمل الشهرين.

حدوثُ الحيضِ أو النفاس.

الإفطار لعذر يبيحه كالسفر لحاجة أو المرض الذي لا يقوى به صاحبه على الصيام أو الحمل أو الإرضاع مع عدم القدرة على الصيام.

ومن الجدير بالذكر أنه لو سافر من أجل الفطر فإنه يقطع التتابع؛ لأنه حيلة والحيل لا تسقط الواجب.

الإغماء طيلة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في يوم نوى صيامه أو عدة أيام؛ لأنه أفطر بسبب لا دخل له فيه.

قال الإمام الحجاوي الحنبلي رحمه الله  في زاد المستقنع: " يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الصَّوْمِ، فَإِنْ تَخَلَّلَهُ رَمَضَانٌ، أَوْ فِطْرٌ يَجِبُ، كَعِيدٍ، وَأَيَّامِ تَشْرِيقٍ، وَحَيْضٍ، وَجُنُونٍ وَمَرَضٍ مَخُوفٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِياً، أَوْ مُكْرَهاً، أَوْ لِعُذْرٍ يُبِيحُ الْفِطْرَ لَمْ يَنْقَطِع ".

يجوز بداية صيام الشهرين المتتابعين من بداية الشهر أو من منتصفه، فإذا بدأ من أوله فإنه يصوم الشهرين على حسب الهلال سواءً كان الشهر تسعة وعشرين أم ثلاثين.

وإذا بدأ من منتصف الشهر فإنه يصوم بقية ذلك الشهر ويصوم الشهر الذي بعده بالهلال ثم يكمل من الشهر الثالث بقية منتصف الشهر الأول حتى يتم ثلاثين يوماً، فيكون قد صام شهر حسب رؤية الهلال وشهر بالعدد ثلاثين يوماً، وهذا مذهب جمهور العلماء. وإن بدأ من أثناء شهر فصام ستين يوماً أجزأه ذلك بغير خلاف.

مسألة: في حالة أداء كفارة الجماع الإطعام، هل يشترط إطعام ستين مسكيناً أم يجوز إخراج الكفارة لمسكين واحد ؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يجوز إخراجها إلا لعدد ستين مسكيناً، وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجزئ عندهم إطعام ستة مساكين عشرة أيام مثلاً، ولا مسكيناً واحداً ستين يوماً، ولا غير ذلك، فلا بد من إطعام ستين مسكيناً على قول الجمهور.

قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: " قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجوداً في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلاً، وبه قال الجمهور. وقالت الحنفية: إنه لو أطعم الجميع مسكيناً واحداً في ستين يوما كفى ".

وأفتت اللجنة الدائمة بأنه: " وإن كان الإفطار بجماع ففيه التوبة وقضاء ذلك اليوم، والكفارة هي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. وإذا صار إلى الإطعام لعجزه عما قبله من العتق والصيام جاز أن يدفع الطعام إلى المساكين دفعة واحدة، وأن يفرقه على دفعات حسب الإمكان، لكن لا بد من استيعاب عدد المساكين، ولا يجوز دفع الإطعام في الكفارة إلى الأصول وهم الآباء والأمهات والأجداد والجدات، ولا إلى الفروع وهم الأولاد وأولاد الأولاد من الذكور والإناث ".

فائدة: لا يجب إطعام الستين مسكيناً في وقت واحد، بل له أن يطعم مسكيناً ثم في وقت آخر يطعم غيره وهكذا، حتى يتم إطعام الستين.

القول الثاني: يجوز إخراج الكفارة لمسكين واحد، ولكن لا يجوز أن تدفع له دفعة واحدة، بل لابد من إطعامه إياها في ستين يوماً، وهذا قول الحنفية؛ لأن تجدد الحاجة كل يوم يجعله كمسكين آخر فكأنه صرف القيمة لستين مسكيناً.

قال الإمام السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط: " ولو أطعم الطعام كله مسكيناً واحداً لم يجزه في دفعة واحدة; لأن الواجب تفريق الفعل بالنص فإذا جمع لا يجزيه إلا عن واحد، كالحاج إذا رمى الحصيات السبع دفعة واحدة، ولو أعطاه في ستين يوماً أجزأه عندنا، ولا يجزئه عند الشافعي رحمه الله تعالى; لأن الواجب عليه بالنص إطعام ستين مسكيناً، والمسكين الواحد بتكرار الأيام لا يصير ستين مسكيناً فلا يتأدى الواجب بالصرف إليه ".

مسألة: إذا جامع الرجل زوجته في نهار رمضان، وكانت طائعة فهل عليها كفارة مثله ؟

اختلف أهل العلم في ما إذا جامع الرجل زوجته وكانت طائعة مختارة، على قولين:

القول الأول: عليها القضاء والكفارة مثل الرجل، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وقول الشافعية، ورجحه ابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة؛ لأن الأحكام الشرعية تستوي فيها المرأة مع الرجل، ما لم يدل دليل عل خلافه، والمرأة هتكت صوم رمضان بالجماع فوجب عليها القضاء والكفارة، ولأن الكفارات لا يُتشارك فيها، فكل منهما حصل منه ما ينافي الصيام من الجماع، فكان على كل منهما كفارة.

القول الثاني: عليها القضاء دون الكفارة، وهذا قول الشافعية في المعتمد من مذهبهم ورواية عن أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ بالكفارة كما في الحديث السابق، ولم يأمره بأن يأمر زوجته بإخراج الكفارة أيضاً، ومن المعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدل على أنه لا كفارة عليها.



مسألة: ما حكم صوم المرأة إذا أجبرها زوجها على الجماع في نهار رمضان ؟

يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في نهار رمضان، ولا يجوز للزوجة أن تُطاوع زوجها على الجماع؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن كان الزوج يعلم بحرمة الجماع وأجبر زوجته على الجماع أثم إثماً كبيراً وعليه القضاء والكفارة، وقال المالكية عليه كفارتان عنه وعنها.

أما الزوجة المُكرَهَة على الجماع، فقد اختلف أهل العلم في حكم صيامها ووجوب الكفارة عليها، وعلى قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية في أحد القولين عندهم والحنابلة في الصحيح من مذهبهم واختاره ابن باز وعليه فتوى اللجنة الدائمة، فإن صومها قد بطل وعليها القضاء فقط ولا كفارة عليها.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله رداً على سؤال حكم من أكرهها زوجها على الجماع: " إذا كان أكرهها إكراهًا لا شبهة فيه بالقوة والضرب أو بالقيود فالإثم عليه، ولا إثم عليها هي، هو الذي عليه الكفارة؛ لأنه هو الظالم، أما إذا تساهلت معه فعليهما الكفارة جميعًا، والقضاء جميعًا، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة ألاّ يفعلا هذا في المستقبل، مع قضاء اليوم وإمساكه؛ إمساك اليوم الذي فعلا فيه المنكر، مع قضائِه بعد ذلك، والله المستعان، أما مجرد أنها أكرهت وطاوعت ما تصير مكرهة، الواجب أن تأبي عليه إباء كاملاً كما ذكرنا، وإن كان زوجها أكرهها إكراهًا جبريًّا، ولا حيلة لها فيه، والله يعلم منها أنها لا حيلة لها فإن الكفارة تسقط عنها وعليها القضاء ".

مسألة: ما حكم من جامع زوجته في نهار رمضان جاهلاً ؟

الجهل على ثلاث أقسام:

1.    الجهل بحرمة الجماع:

فإذا جامع الرجل زوجته في نهار رمضان جاهلاً بحرمة الجماع، فلا كفارة عليه على قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية.

ولكن اشترط المالكية والشافعية أن يكون الجاهل غير متمكن من تعلم الأحكام الشرعية، كحديث الإسلام الذي لا يزال في بلاد الكفر، أو الناشئ في بادية بعيدة، أما إذا كان الجاهل متمكنا من تعلم الأحكام الشرعية فقصر كمن يعيش بين المسلمين فعليه الكفارة عند المالكية والشافعية.

قال الإمام النووي في المجموع: " إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلاً بتحريمه -فإن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كونه مفطراً- لم يفطر، لأنه لا يأثم، فأشبه الناسي الذي ثبت فيه النص، وإن كان مخالطاً للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر لأنه مقصر". وقال الإمام الدَّرْدِيرُ المالكي في الشرح الكبير: "ورابعها -أي موجبات الكفارة- أن يكون عالماً بالحرمة، فجاهلها كحديث عهد بإسلام ظن أن الصوم لا يحرم معه الجماع فجامع فلا كفارة عليه".

أما من حيث وجوب القضاء على الجاهل بحرمة الجماع خلاف عند أهل العلم، فالشافعية قالوا: من يعذر بجهله لا قضاء عليه، وجاء في عدم وجوب القضاء رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأفتى بذلك ابن عثيمين.

وأوجب المالكية والحنابلة القضاء على الجاهل وأفتى بذلك ابن باز وعليه فتوى اللجنة الدائمة. وعليه فإن من الأحوط أن يقضي، والله اعلم.

2.    الجاهل بحرمة الوقت:

فإذا جامع الرجل زوجته ظاناً أن الفجر لم يطلع فلما انتهى تبين له أن الفجر قد طلع أو جامعها ظاناً غروب الشمس فتبين له أن الشمس لم تغرب بعد، فعليه القضاء عند جماهير أهل العلم، قال الإمام النووي في المجموع: " إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ ظَانًّا غُرُوبَ الشَّمْسِ أَوْ عَدَمَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَبَانَ خِلَافُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانِ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وأحمد وأبو ثور والجمهور ".

أما من حيث وجوب الكفارة، فجمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية قالوا: لا تجب عليه الكفارة لجهله بحرمة الوقت.

3.    الجاهل بحكم الكفارة:

فإذا جامع الرجل زوجته جاهلاً بحكم الكفارة مع علمه بحرمة الجماع، فلا يعذر بجهله، ولا تسقط عنه الكفارة، قال الإمام الزركشي الشافعي في المنثور: "لو قال: علمت تحريم الجماع، وجهلت وجوب الكفارة، وجبت بلا خلاف، ذكره الدارمي وغيره، قال النووي في شرح المهذب: هو الراجح".

وقال الإمام الدَّرْدِيرُ المالكي في الشرح الكبير: " وأما جهل وجوبها -يعني الكفارة- مع علم حرمته فلا يسقطها ".

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الرجل الذي أتى أهله في نهار رمضان، إذا كان جاهلاً بالحكم يظن أن الجماع المحرم هو ما كان فيه إنزال، فإنه لا شيء عليه، أما إذا كان يدري أن الجماع حرام، ولكنه لم يعرف أن فيه الكفارة فإن عليه الكفارة، لأن هناك فرقاً بين الجهل بالحكم وبين الجهل بالعقوبة، فالجهل بالعقوبة لا يعذر به الإنسان والجهل بالحكم يعذر به الإنسان، ولهذا قال العلماء: لو شرب الإنسان مسكراً يظنُّ أنه لا يُسكر أو يظن أنه ليس بحرام فإنه ليس عليه شيء، ولو علم أنه يسكر وأنه حرام ولكن لا يدري أنه يُعاقب عليه، فعليه العقوبة ولا  تسقط عنه ".

مسألة: ما حكم من جامع زوجته في نهار رمضان ناسياً ؟

إذا جامع الرجل زوجته في نهار رمضان ناسياً فلا كفارة عليه، وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة.

أما من حيث وجوب القضاء عليه فقد اختلف أهل العلم، جمهور العلماء من (الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة) قالوا: لا قضاء عليه.

وأوجب المالكية والحنابلة في المشهور من مذهبهم عليه القضاء. وعليه فإن قضى اليوم الذي جامع فيه ناسياً فهو الأحوط، والله أعلم.

مسألة: ما حكم من تكرر منه الجماع في رمضان؟

من تكرر منه الجماع في يوم واحد يكفيه كفارة واحدة إذا لم يُكفِّر، بلا خلاف بين أهل العلم؛ وذلك لأنه أبطل صيام يوم واحد ولم يُكفِّر، فتتداخل الكفارات لأن الموجب لها واحد.

أما إذا تكرر منه الجماع في يوم واحد وكفر عن الأول فلا تلزمه كفارة ثانية، عند الجمهور: أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ وذلك لأنه لم يصادف صوما منعقداً، فلم يوجب شيئاً، بخلاف المرة الأولى، فالجماع الثاني ورد على صوم غير صحيح، فهو لا يسمى صائماً.

إن تكرر منه الجماع في يومين فأكثر فتلزمه كفارة لكل يوم جامع فيه سواء كفر عن الجماع الأول أم لا، ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة؛ وذلك لأن صوم كل يوم عبادة منفردة مستقلة، فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل.

ملاحظة: من وطئ زوجته في الدبر فقد ارتكب فعلاً شنيعاً محرماً وهو ملعون لا ينظر الله إليه يوم القيامة، وإذا فعل ذلك في نهار رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة كما في الجماع، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة.

مسألة: إذا أفطر الرجل يوماً من رمضان لعذر كسفر أو مرض، ولما قضاه بعد رمضان جامع زوجته في نهار اليوم الذي يقضي فيه، فهل عليه كفارة؟

وإذا صامت المرأة بعد رمضان لتقضي ما فاتها زمن الحيض في رمضان، فجامعها زوجها أثناء النهار، فهل عليها كفارة ؟

من جامع في قضاء رمضان عامداً فعليه القضاء فقط ولا كفارة عليه، وهذا باتفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة؛ وذلك لانعدام حرمة الشهر؛ ولأن النص بوجوب الكفارة ورد فيمن جامع في نهار رمضان لا في غيره.

قال الإمام ابن عبد البر المالكي في كتابه التمهيد: " وأجمعوا على أن المجامع في قضاء رمضان عامداً لا كفارة عليه حاشا –ما عدا- قتادة وحده ".

وقال الإمام النووي الشافعي في كتابه المجموع: " لو جامع في صوم غير رمضان من قضاء أو نذر أو غيرهما فلا كفارة كما سبق، وبه قال الجمهور ".

مسألة: هل تسقط كفارة الجماع عن من عجز عنها ؟

سبق أن بينا أنه يجب على من جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً ذاكراً مختاراً عالماً بالتحريم أن يعتق رقبة، فإن لم يستطع فليصم شهرين متتابعين، فإن عجز عن ذلك فليطعم ستين مسكيناً.

فإذا عجز عن الإطعام، اختلف أهل العلم في حاله على قولين:

القول الأول: لا تسقط عنه كفارة الجماع وتبقى في ذمته، وهذا قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية في الأظهر عندهم ورواية عن أحمد.

القول الثاني: تسقط عنه كفارة الجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يطعم أهله، ولم يأمره بكفارة أخرى ولا بين له بقاءها في ذمته، وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية في قول، واختاره الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وبه أفتت اللجنة الدائمة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " والقول الراجح أنّها تسقط، وهكذا أيضاً نقول في جميع الكفارات، إذا لم يكن قادراً عليها حين وجوبها فإنها تسقط عنه ".

الفصل السابع

مسائل مهمة متعلقة بالمفطرات

اتفق العلماء على بعض المفطرات لورود النص فيها كالأكل والشرب والجماع، واختلفوا في عدد من القضايا إن كانت من المفطرات أم لا، وذلك لعدم ورود نص صريح فيها، ومن ثم تم الاختلاف في تكييفها. وعليه سنتولى في هذا الفصل بيان أهم المسائل التي يكثر السؤال عنها إن كانت من المفطرات أم لا، وذلك على النحو التالي:

المسألة الأولى: ما حكم ابتلاع ما يدخل جوف الصائم بلا اختيار منه ؟ وما حكم ابتلاع الريق والبلغم والنخامة ؟

ما يدخل جوف الصَّائم بلا اختيارٍ منه، كغُبارِ الطَّريق، لا يُفطِّره بإجماع أهل العلم. وكذا لو دخل إلى حلقه ذباب لا يبطل صومه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، ودخل إلى فمه أو حلقه بغير إرادته.

ابتلاع الرِّيق الذي لم يخالط غيره، ما دام لم يفارقِ الفم، ولم يَجمعْه الصائم ويبتلعه فلا يُفطِّر بإجماع أهل العلم، أما إذا جمعه وبلعه اختلف أهل العلم في كونه مفطراً أو لا، وقول الجمهور أنه: لا يفطر.

قال الإمام الزيلعي الحنفي في تبيين الحقائق: " وَلَوْ جَمَعَ رِيقَهُ فِي فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ لَمْ يُفَطِّرْهُ ".

وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني: " مَا لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ, كَابْتِلاعِ الرِّيقِ لا يُفَطِّرُهُ, لأَنَّ اتِّقَاءَ ذَلِكَ يَشُقُّ, فَأَشْبَهَ غُبَارَ الطَّرِيقِ, وَغَرْبَلَةَ الدَّقِيقِ. فَإِنْ جَمَعَهُ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ قَصْدًا لَمْ يُفَطِّرْهُ; لأَنَّهُ يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ مَعِدَتِهِ, أَشْبَهَ مَا إذَا لَمْ يَجْمَعْهُ، فَإِنَّ الرِّيقَ لا يُفَطِّرُ إذَا لَمْ يَجْمَعْهُ, وَإِنْ قَصَدَ ابْتِلاعَهُ, فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَهُ ".

وقال الإمام النووي الشافعي في المجموع: " ابْتِلَاعُ الرِّيقِ لَا يُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ عَلَى الْعَادَةِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ... فَلَوْ جَمَعَهُ قَصْدًا ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَهَلْ يُفْطِرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ –أي عند الشافعية- ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا (أَصَحُّهُمَا) لَا يُفْطِرُ، وَلَوْ اجْتَمَعَ رِيقٌ كَثِيرٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَابْتَلَعَهُ لَمْ يُفْطِرْ بِلَا خِلَافٍ " .

ابتلاع البلغم أو النخامة (مخاط الأنف) إذا وصلت إلى الفم قصداً اختلف فيه أهل العلم، فعلى قول الشافعية والحنابلة: يفطر من ابتلع البلغم أو النخامة إذا ابتلعته عالماً بأنه يفطر ومع القدرة على لفظه ولم يكن ناسياً.

وعلى قول الحنفية والمالكية في المعتمد عندهم ورواية عن أحمد: لا يفطر، ورجح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كونها غير مفطرة؛ لأنها لم تخرج من الفم، ولا يُعد بلعها أكلاً ولا شرباً، فلو ابتلعها بعد أن وصلت إلى فمه فإنه لا يُفطر بها، إلحاقاً لها بالريق، فإن الريق لا يبطل به الصوم.  وقال الشيخ ابن عثيمين أيضاً: " والمهم أن يدع الإنسان النخامة ولا يحاول أن يجذبها إلى فمه من أسفل حلقه، ولكن إذا خرجت إلى الفم فليخرجها سواء كان صائماً أم غير صائم، أما التفطير فيحتاج إلى دليل يكون حجة للإنسان أمام الله عز وجل في إفساد الصوم ".

وقال الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي حفظه الله: " إن ما كان بداخل الفم فهو من داخل الجسم على الراجح فلا يتنجس ما لم يخرج من الفم، فالشيء الذي لم يُدخله الإنسان من خارج فمه وإنما كان من داخل الفم ومن أصل الخلقة، الراجح أنه لا يُفسد الصوم، فالريق والنخامة ونحوها أمور هي من داخل الجسم، فلذلك لا تفسد الصوم لأنها ليست من التغذية الخارجية، هذا هو الراجح ".

المسألة الثانية: ما حكم شرب الدخان للصائم ؟

بداية شرب الدخان محرم سواءً في نهار رمضان أم في غير نهار رمضان، وينبغي أن يكون شهر رمضان فرصة للمدخنين للإقلاع عن هذه المعصية.

وإذا شرب الصائم الدخان أثناء النهار بطل صيامه، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة؛ وذلك لأن الدخان له جرمٌ ينفذ إلى الجوف، فهو جسمٌ يدخل إلى الجوف، فيكون مفطراً كالماء؛ ولأنه يسمَّى شرباً عرفاً وصاحبه يتعمد إدخاله في جوفه من منفذ الأكل والشرب فيكون مفطراً.

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال التالي: يعتقد بعض الصائمين الذين ابتلاهم الله بشرب الدخان أن تعاطي الدخان في نهار رمضان ليس من المفطرات، لأنه ليس أكلاً ولا شرباً فما رأي فضيلتكم في هذا القول؟

فأجاب فضيلته: " أرى أنه قول لا أصل له، بل هو شرب، وهم يقولون: إنه يشرب الدخان، ويسمونه شرباً، ثم إنه لا شك يصل إلى المعدة وإلى الجوف، وكل ما وصل إلى المعدة والجوف فإنه مفطر، سواء كان نافعاً أم ضارًّا، حتى لو ابتلع الإنسان خرزة سبحة مثلاً، أو شيئاً من الحديد، أو غيره فإنه يفطر، فلا يشترط في المفطر، أو في الأكل والشرب أن يكون مغذياً، أو أن يكون نافعاً، فكل ما وصل إلى الجوف فإنه يعتبر أكلاً وشرباً، وهم يعتقدون بل هم يعرفون أن هذا شرب، ... ثم إنه بهذه المناسبة أرى أن شهر رمضان فرصة لمن صدق العزيمة، وأراد أن يتخلص من هذا الدخان الخبيث الضار، أرى أنها فرصة لأنه سوف يكون ممسكاً عنه طول نهار رمضان، وفي الليل بإمكانه أن يتسلى عنه بما أباح الله له من الأكل والشرب والذهاب يميناً وشمالاً إلى المساجد، وإلى الجلساء الصالحين، وأن يبتعد عمّن ابتلوا بشربه، فهو إذا امتنع عنه خلال الشهر فإن ذلك عون كبير على أن يدعه في بقية العمر، وهذه فرصة يجب أن لا تفوت المدخنين ".

المسألة الثالثة: ما حكم التطيب وشم الروائح واستنشاق البخور أثناء الصيام ؟

يباح للصائم التطيب وشم الروائح إذا لم تكن بخوراً أو دخاناً له جُرْم (أجزاء أو غازات محسوسة مُشاهَدَة تخرج منه) ينفذ إلى الجوف.

أما استنشاق البخور قصداً ووصوله إلى جوف الصائم يبطل الصوم على قول جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والحنابلة، واختاره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " شم الصائم للطيب لا بأس به، سواء كان دهناً أو بخوراً، لكن إذا كان بخوراً لا يستنشق دخانه، لأن الدخان له جرم ينفذ إلى الجوف، فهو جسم يدخل إلى الجوف، فيكون مفطراً كالماء وشبهه، وأما مجرد شمه بدون أن يستنشقه حتى يصل إلى جوفه فلا بأس به".

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "لا يستنشق العود، أما أنواع الطيب غير البخور فلا بأس بها، لكن العود نفسه لا يستنشقه؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن العود يفطر الصائم إذا استنشقه؛ لأنه يذهب إلى المخ والدماغ، وله سريان قوي، أما شمه من غير قصد فلا يفطره ".

المسألة الرابعة: هل يباح للصائم الاكتحال ؟

يباح للصائم الاكتحال؛ وذلك لأن العين ليست منفذاً للجوف، وهذا قول الحنفية، والشافعية، وبعض المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين، والألباني.  واحتجوا بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " اكْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ " (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

قال الشيخ ابن عثيمين في كتابه الشرح الممتع: " وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الكحل لا يفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق، وقال: إن هذا لا يسمى أكلاً ولا شرباً ولا بمعنى الأكل والشرب ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح صريح يدل على أن الكحل مفطر، والأصل عدم التفطير وسلامة العبادة حتى يتبين لدينا ما يفسدها. وما ذهب إليه رحمه الله هو الصحيح ولو وجد الإنسان طعمه في حلقه ".

المسألة الخامسة: ما حكم استعمال الصائم لقطرة العين أو الأذن أو الأنف ؟

استعمال قطرة العين:

يباح للصائم استعمال قطرة العين، وقد ذهب إلى ذلك الحنفية، والشافعية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين، وإلى هذا ذهب مجمع الفقه الإسلامي، وذلك للآتي:

قطرة العين حجمها قليل جداً، وهو أقل من القدر المعفو عنه مما يبقى من المضمضة.

القطرة تُمْتَصُّ جميعها أثناء مرورها في القناة الدمعية ولا تصل إلى البلعوم، وعندما تمتص هذه القطرة تذهب إلى مناطق التذوق في اللسان، فيشعر المريض بطعمها، كما قرر ذلك بعض الأطباء.

القطرة في العين لم ينص على كونها من المفطرات وليست بمعنى المنصوص عليه، ولو لطخ الإنسان قدميه ووجد طعمه في حلقه لم يفطره؛ لأن ذلك ليس منفذاً فكذلك إذا قطر في عينه، فالعين ليست منفذاً للأكل والشرب.

استعمال قطرة الأذن:

يباح للصائم استعمال قطرة الأذن، وهو وجه عند الشافعية، وقول ابن حزم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين، وإلى هذا ذهب مجمع الفقه الإسلامي؛ وذلك لأن الأذن ليست منفذاً للطعام والشراب.

وقد بين الطب الحديث أنه ليس بين الأذن وبين الجوف ولا الدماغ قناة ينفذ منها المائع إلا في حالة وجود خرق في طبلة الأذن، فإذا تبين أنه لا منفذ بين الأذن والجوف، كان حكم قطرة الأذن أنها غير مفطرة. أما إذا أزيلت طبلة الأذن لمرض أو ما شابه فهنا تتصل الأذن بالبلعوم، وتكون كالأنف.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما قطرة العين ومثلها أيضاً الاكتحال وكذلك القطرة في الأذن فإنها لا تفطر الصائم، لأنها ليست منصوصاً عليها، ولا بمعنى المنصوص عليه، والعين ليست منفذاً للأكل والشرب، وكذلك الأذن فهي كغيرها من مسام الجسد ".

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " وهكذا قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء، فإن وجد طعم القطور في حلقه، فالقضاء أحوط ولا يجب؛ لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب".

استعمال قطرة الأنف:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: استعمال القطرة في الأنف في نهار رمضان يفسد الصوم إذا وصل التقطير إلى الجوف، وهذا قول جمهور العلماء ورجحه الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة: " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فالحديث يدل على أنه لا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته، فالأنف منفذ إلى الحلق ثم المعدة، كما أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في الاستنشاق يتضمن النهي عن إدخال أي شيء عن طريق الأنف.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " أما القطرة في الأنف فلا تجوز؛ لأن الأنف منفذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث، وما جاء في معناه، إن وجد طعمها في حلقه ".

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قطرة الأنف إذا وصلت إلى المعدة أو إلى الحلق فإنها تفطر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث لقيط بن صبرة : (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) فلا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته، أو إلى حلقه وأما ما لا يصل إلى ذلك من قطرة الأنف فإنها لا تفطر " .

القول الثاني: استعمال القطرة في الأنف في نهار رمضان لا يفسد الصوم، وهذا قول الإمام ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض أهل العلم المعاصرين ومنهم الشيخ هيثم الخياط، والشيخ عجيل النشمي، وأخذ بذلك مجمع الفقه الإسلامي؛ لأن ما يصل إلى المعدة من هذه القطرة قليل جداً، وهذا القليل الواصل أقل مما يصل من المتبقي من المضمضة، فيعفى عنه قياساً على المتبقي من المضمضة. ولأن الدواء الذي في هذه القطرة مع كونه قليلاً فهو لا يغذي، وعلة التفطير هي التقوية والتغذية، وقطرة الأنف ليست أكلاً ولا شرباً، لا في اللغة، ولا في العرف.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات: " الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق ".

والأحوط عدم استعمال القطرة في الأنف خلال نهار رمضان خروجاً من الخلاف بين العلماء، ولقوة القول الأول؛ حيث إن الأنف منفذ للجوف، كما أن النبي نهى عن المبالغة في الاستنشاق مخافة أن يدخل شيء من الماء إلى الجوف، فيكون معنى ذلك عدم جواز إدخال أي شيء إلى الجوف من خلال الأنف.

المسألة السادسة: ما حكم استعمال دواء الغرغرة والمضمضة للصائم ؟

دواء الغرغرة والمضمضة لا يبطل الصوم إذا لم يبتلعه الصائم، والأصل عدم فعله إلا إذا دعت الحاجة، لكن لا يفطر به إذا لم يدخل في الجوف شيء منه، وهذا ما أفتى به الشيخ ابن عثيمين، وإلى ذلك ذهب مجمع الفقه الإسلامي.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات ما يلي: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 7- المضمضة والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق ".

والذي نراه أنه ينبغي على الصائم الاحتراز عن استعمال دواء الغرغرة في نهار رمضان؛ لأنّ فيه تعريض صومه للخطر، والله أعلم.

المسألة السابعة: ما حكم الحجامة للصائم ؟

إذا احتجم الصائم لا يفسد صومه على مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم " (رواه البخاري ومسلم). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئِل: " هل كنتم تكرهون الحجامة؟ فقال: لا، إلا من أجل الضعف " (رواه البخاري).

إلا أن الحجامة تُكره في حق من كان سيضعف بها، وتحرم إذا بلغ به الضعف إلى أن تكون سببًا في إفطاره، وعليه فإن الأحوط أن تؤجَّل الحجامة إلى الليل خروجاً من الخلاف بين أهل العلم.

المسألة الثامنة: ماحكم سحب الدم للتحليل أو التبرع للصائم؟

لا يفسد الصوم إذا سحب الصائم دمه من أجل تحليل أو تبرع على مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية.

والأولى تأخير التحليل أو التبرع إلى الليل خروجاً من الخلاف بين أهل العلم، وكذلك حتى لا يضعف الصائم ضعفاً شديداً يضطره إلى الإفطار.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " لا حرج على الصائم في تحليل الدم عند الحاجة إلى ذلك، ولا يفسد الصوم بذلك، أما التبرع بالدم فالأحوط تأجيله إلى ما بعد الإفطار ".



فائدة: خروج الدم برعاف أو سعال أو خلع سن أو جرح في البدن لا يفسد الصيام، لكن لا يجوز أن يبتلع الصائم الدم عامداً، فإن نزل الدم في فمه نتيجة خلع سن أو ما شابه وابتلعه متعمداً بطل صومه. قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " ما خرج من الإنسان بغير قصد كالرعاف وكالجرح للبدن أو وطئه على زجاجة، أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يفسد الصوم ولو خرج منه دم كثير ".

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "  خروج الدم بالرعاف أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإبرة ونحوها فلا يفطر ".

وسئل الشيخ ابن عثيمين عن رجل أصيب بمرض الجيوب الأنفية، وأصبح بعض الدم ينزل إلى الجوف، والآخر يخرجه من فمه، فهل صومه صحيح إذا صام؟

فأجاب رحمه الله: " إذا كان في الإنسان نزيف من أنفه وبعض الدم ينزل إلى جوفه، وبعض الدم يخرج فإنه لا يفطر بذلك، لأن الذي ينزل إلى جوفه ينزل بغير اختياره، والذي يخرج لا يضره ".



المسألة التاسعة: ما حكم نقل الدم للصائم ؟

اختلف أهل العلم في حكم نقل الدم للصائم إذا احتاج الصائم إلى دم، كأن يحصل معه نزيف، أو ينقص دمه، على قولين:

القول الأول: نقل الدم للصائم يُفطر ويفسد الصيام، وهذا قول الشيخ ابن باز، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ محمد بن إبراهيم التويجري وغيرهم؛ لأن الدم خلاصة الغذاء، والغذاء من المفطرات، ولكون الدم الداخل للبدن يحصل به ما يحصل بالطعام والشراب من تقوية البدن وحفظه.

القول الثاني: نقل الدم لا يُفَطِّر، وهذا قول الشيخ ابن عثيمين، والشيخ أحمد حطيبة، والشيخ الدكتور خالد المصلح، وغيرهم، وذهب إلى ذلك المجتمعون في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت سنة 1997م، وبذلك أفتت دار الإفتاء المصرية؛  لكونه ليس أكلاً ولا شرباً ولا هو في معنى الأكل والشرب من كل وجه، فتقوية البدن وتغذيته هي أحد المقاصد من الطعام والشراب، فحصولها للصائم بغير الأكل والشرب لا يحصل به الفطر، كما أن الأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده؛ لأن من القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح بلوغ المرام: " الذي يُحقن به الدم وهو صائم، هل يفطر أم لا ؟ كنتُ أرى أنه يفطر، وأقول: (إذا كان الطعام والشراب مفطراً فإنه يتحول إلى دم فالدم هو لبابة الطعام والشراب فهو يفطر مثلها)، ثم بدا لي أنه لا يفطر ؛ لأنه وإن أعطى البدن قوة لكن لا يغنيه عن الطعام والشراب وليس من حقنا أن نلحق فرعاً بأصل لا يساويه ".

والأحوط لمن نُقل إليه دم أن يقضي ذلك اليوم؛ خروجاً من الخلاف، خاصة وأن المريض الذي ينقل إليه الدم في الغالب يكون ممن يباح لهم الفطر لمرضه، فإن لم يقضِ عملاً بالقول الثاني فلا حرج عليه، والله أعلم.

المسألة العاشرة: ما حكم استعمال الصائم للحقن ؟

الحقن عدة أنواع، نبين أحكامها فيما يلي:

1.    الحقنة الشرجية:

الحقن الشرجية: هي تلك الحقن التي يُحقن بها المرضى في الدبر ضد الإمساك، واختلف أهل العلم في اعتبارها من المفطرات أم لا على قولين:

القول الأول: مَن احتقن وهو صائم بحُقنة في الشَّرْج صومه يفسد، وهذا قول جمهور العلماء؛ وذلك لأنَّ المادة التي يحقَن بها واصلةٌ إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكْل.

القول الثاني: مَن احتقن وهو صائم بحُقنة في الشَّرْج صومه لا يفسد، وقد ذهب إلى ذلك  بعض المالكية، وبعض الشافعية، والظاهرية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذلك لأن الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن ولأنه لو كانت هذه الأمور من المفطرات لذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، ونقل إلينا. كما أن الأصل صحة الصيام حتى يقوم دليل على فساده.

قال ابن عثيمين: " الحقن الشرجية التي يحقن بها المرضى في الدبر ضد الإمساك اختلف فيها أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنها مفطرة، بناء على أن كل ما يصل إلى الجوف فهو مفطر، وقال بعضهم: إنها ليست مفطرة وممن قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعلل ذلك بأن هذا ليس أكلاً ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، والذي أرى أن ينظر إلى رأي الأطباء في ذلك فإذا قالوا: إن هذا كالأكل والشرب وجب إلحاقه به وصار مفطراً، وإذا قالوا: إنه لا يعطي الجسم ما يعطيه الأكل والشرب فإنه لا يكون مفطراً ".

ونحن نتفق مع قول جمهور العلماء، ونوصي أن لا يستعمل الصائم الحقنة الشرجية في نهار رمضان وأن يؤخرها إلى ما بعد الإفطار؛ ذلك أن العلم أثبت أن فتحة الشرج (الدبر) متَّصلة بالمستقيم، والمستقيم متَّصل بالقولون (الأمعاء الغليظة)، وامتصاص الغذاء يتمّ معظمه في الأمعاء الدقيقة، وقد يُمتص في الأمعاء الغليظة الماء وقليل من الأملاح والجلوكوز، ولا سيما أن كثيراً من الأطباء ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء فترة الصوم؛ لأنها  تسبب ضعفاً في عضلات الأمعاء وغشائها وكذلك تسبب ضرراً للقولون وتضعف المريض الصائم، والله أعلم.

2.    استعمال الحقن العلاجية غير المغذية:

استعمال الحقنة العلاجية غير المغذية لا يفسد الصوم سواء كانت الحقنة في العضل أم الوريد أو تحت الجلد (كإبرة الأنسولين)، وقد ذهب إلى ذلك ابن باز، وابن عثيمين، وغيرهما، وهو من قرارات مجمع الفقه الإسلامي، وفتاوى اللجنة الدائمة، وفتاوى قطاع الإفتاء بالكويت؛ وذلك لأن الأصل صحة الصوم حتى يقوم دليل على فساده، ولأن هذه الإبرة ليست أكلاً، ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، وعلى هذا فينتفي عنها أن تكون في حكم الأكل والشرب.

3.    استعمال الحقن العلاجية المغذية:

استعمال الحقن الوريدية المغذية يفسد الصيام، وهو قول ابن باز، وابن عثيمين، وهو من قرارات مجمع الفقه الإسلامي، وفتاوى اللجنة الدائمة؛ وذلك لأن الإبر المغذية في معنى الأكل والشرب، فإن المتناول لها يستغني بها عن الأكل والشرب.

المسألة الحادية عشرة : هل يفطر الصائم باستعمال أدوية الربو ؟

أدوية الربو عدة، وسنبين أهم أحكامها فيما يلي:

1.    استعمال بخاخ الربو:

استعمال بخاخ الربو في نهار رمضان لا يفسد الصوم، وقد رجح ذلك ابن باز ، وابن عثيمين، وغيرهما، وذهب إليه أكثر المجتمعين في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت سنة 1997م. وذلك للأسباب التالية:

أن الرذاذ الذي ينفثه بخاخ الربو عبارة عن هواء، حدوده الرئتان ومهمته توسيع شرايينها وشعبها الهوائية التي تضيق بالربو، وهذا الرذاذ الأصل أنه لا يصل إلى المعدة، فليس أكلاً ولا شرباً ولا هو في معناهما.

لأنه لو دخل شيء من بخاخ الربو إلى المريء ومن ثم إلى المعدة فهو قليل جداً، فالعبوة الصغيرة تشتمل على 10 مليلتر من الدواء السائل وهذه الكمية وضعت لمائتي بخة، فالبخة الواحدة تستغرق نصف عشر مليلتر، وهذا شيء يسير جدًّا.

لأنه لما أبيح للصائم المضمضة والاستنشاق مع بقاء شيء من أثر الماء يدخل المعدة مع بلع الريق فكذلك لا يضر الداخل إلى المعدة من بخاخ الربو قياساً على المتبقي من المضمضة.

بالقياس على استعمال السواك، فقد ذكر الأطباء أن السواك يحتوي على ثمانية من المواد الكيميائية، تقي الأسنان، واللثة من الأمراض، وهي تنحل باللعاب وتدخل البلعوم، فإذا كان قد عُفي عن هذه المواد التي تدخل إلى المعدة؛ لكونها قليلة وغير مقصودة، فكذلك ما يدخل من بخاخ الربو يعفى عنه للسبب ذاته.

أن دخول شيءٍ إلى المعدة من بخاخ الربو أمر ليس قطعيًّا، بل مشكوك فيه، أي قد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصيام وهو اليقين، فلا يزول بالشك.

2.    استعمال كبسولات الربو:

عبارة عن كبسولات يكون فيها الدواء على شكل بودرة جافة، ويتم إدخال هذه الكبسولات إلى جهاز خاص فيه أداة لثقب هذه الكبسولات لتحرير جرعة الدواء ويتم شفطها من الجهاز بواسطة الفم. واستعمال هذه الكبسولات مفسد للصيام؛ لأن جزءاً من هذه البودرة يختلط بالريق وينزل إلى المعدة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " اختناق النفس المعروف بالربو يصيب بعض الناس، نسأل الله لنا ولهم العافية، فيستعمل دوائين، دواء يسمى (كبسولات) يستعملها فهذه تفطر؛ لأنه دواء ذو جرم يدخل إلى المعدة ... ".

3.    استعمال تبخيرة الصدر:

يتم استعمال تبخيرة الصدر عن طريق جهاز يقوم بتحويل الدواء -وعادة ما يكون الدواء محلولاً في ملح الصوديوم– السائل إلى بخار ورذاذ ناعم، ويوضع الدواء في وعاء صغير خاص بالجهاز، وعند تشغيل الجهاز يتم ضخ هواء بسرعة عالية مما يسبب تبخير هذا الدواء، وبالتالي يتم استنشاقه من قبَل المريض إما عن طريق كمَّام يوضع على الفم، أو أنبوب صغير يمكن وضعه داخل الفم.

ووصول قطرات الماء والملح إلى الجوف عن طريق هذا الجهاز أمر شبه حتمي، ولا يستطيع المريض تفادي حدوثه، وعليه نوصي بأن لا يستخدم المريض تبخيرة الصدر أثناء نهار رمضان، وإذا احتاجها أن يستخدمها بعد الإفطار، وإذا احتاجها في نهار رمضان أن يستخدم مكانها بخاخ الربو فهو لا يفطر على رأي جماهير العلماء المعاصرين كما أسلفنا.

المسألة الثانية عشرة : ما حكم استعمال غاز الأوكسجين في تنفس المريض أثناء الصيام؟

استعمال غاز الأكسجين في التنفس لا يفسد الصيام، وذهب إلى ذلك مجمع الفقه الإسلامي؛ وذلك لأنه مجرد غاز يدخل إلى الجهاز التنفسي، ولم يقل أحد إنَّ تنفس الهواء أو استنشاقه يفسد الصوم، ولأنه لا يحتوي على أية مواد مغذية أو غيرها، ولا ينال المعدة من سيولته شيء.

المسألة الثالثة عشرة : ما حكم صوم من أجري له غسيل كلوي ؟

اختلف أهل العلم فيما إذا كان الغسيل الكلوي يفطر أم لا على قولين:

القول الأول: من أجري له غسيل كلوي بأية وسيلة كانت فإنه يفطر بذلك، وهذا قول الشيخ ابن باز، والأستاذ الدكتور وهبة الزُّحَيْلِيّ، وبه أفتت اللجنة الدائمة ودار الإفتاء الأردنية؛ وذلك لأن غسيل الكلى مهما كانت صورته فإنه لا يخلو من دخول المفطر، فهو يزود الجسم بالدم النقي, وقد يزود بمادة غذائية أخرى, فاجتمع مفطران تزويد الجسم بالدم النقي، وتزويده بالمواد المغذية.

القول الثاني: الغسيل الكلوي بطريقتيه الدموية والبروتونية لا يفطر، وأفتى بذلك الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ محمد المختار السلامي، والشيخ الدكتور خالد المصلح وغيرهم، وأفتت به دار الإفتاء المصرية؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً، ولا هو في معنى الأكل والشرب، والأصل عدم الحكم بالفطر إلا ببينة واضحة، وحجة بَيِّنِةٍ.

وأنصح المصاب بالفشل الكلوي أن يجري عملية الغسيل بعد وقت الإفطار إن استطاع، وإن كان لابد من إجرائه نهاراً يفطر في الأيام التي يُجري فيها الغسيل، ثم إن تمكن من القضاء فإنه يلزمه القضاء، وإن كان لا يتمكن من القضاء فهو بمنزلة العاجز عن الصيام، يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ذلك أن الغسيل الكلوي يكون مصحوباً بمواد مغذية، وما يغذي البدن يفطر، والله أعلم. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الغسيل يخرج الدم وينظف ويعاد إلى البدن. لكن أخشى أن يكون في هذا الغسيل مواد مغذية تغني عن الأكل والشرب، فإن كان الأمر كذلك فإنها تفطر، وحينئذ إذا كان الإنسان مبتلى بذلك أبد الدهر يكون ممن مرض مرضاً لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وأما إذا كان في وقت دون آخر فيفطر في وقت الغسيل ويقضيه بعد ذلك".

المسألة الرابعة عشرة : ما حكم استعمال الأقراص التي توضع تحت اللسان أثناء الصيام ؟

وهي أقراص توضع تحت اللسان للعلاج، كعلاج بعض الأزمات القلبية، وهي تمتص مباشرة بعد وضعها بوقت قصير، ويحملها الدم إلى القلب، فتوقف أزماته المفاجئة، ولا يدخل إلى الجوف شيء من هذه الأقراص.

وتناول هذه الأقراص لا يفسد الصوم بشرط ألا يبتلع شيئاً مما يتحلل منها، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي، ودار الإفتاء الأردنية؛ وذلك لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، ولأنه لا يدخل منها شيء إلى الجوف إنما تقوم الأوعية الدموية الموجودة تحت اللسان بامتصاص المادة الدوائية، وقد أجمع أهل العلم على عدم الفطر بما نفذ من المسام، ولا فرق بين أن تكون المسام خارج الفم أو داخله، كما أن الأصل صحة الصيام ولا يحكم بفساده إلا بيقين.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق ".

المسألة الخامسة عشرة : ما حكم استعمال المراهم والدهون المرطبة للبشرة (الكريمات) للصائم ؟

استعمال المراهم والكريمات وغيرها من دهون البشرة بل وحتى زيوت الشعر وما شابه لا تفطر الصائم؛ لأنه لا يدخل إلى الجوف، وما يصل منه إلى ما تحت البشرة يصل من منفذ غير مفتوح وهي مسامات الجلد. وهذا قول عامة أهل العلم، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي والعلماء المجتمعون في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات ما يلي: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 11- ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهون والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية. ".

المسألة السادسة عشرة : ما حكم إجراء تصوير الأشعة للصائم ؟

إجراء تصوير الأشعة للصائم بحدّ ذاته لا يفطر الصائم سواءً بواسطة أشعة إكس أم بطريقة التصوير الطبقي أو بواسطة الرنين المغناطيسي، وكذلك العلاج بالأشعة كما يحصل في       تفتيت الحصى في الكليتين مثلاً لا يفطر لكن إذا تناول دواءً أو مادةً معينة لإظهار الصورة فإنه يفطر بها.

المسألة السابعة عشرة : هل يباح للصائم استعمال التحاميل الشرجية ؟

استعمال التحاميل (اللبوس) في نهار رمضان لا يفسد الصوم، ذهب إلى ذلك بعض المالكية، والظاهرية، وإليه ذهب الشيخ ابن عثيمين، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ الدكتور وهبة الزُّحَيْلِيّ، وأكثر المجتمعين في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، وذلك لأنها ليست أكلاً، ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب ولا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب، ولأن التحاميل تحتوي على مادة دوائية، وليس فيها سوائل نافذة إلى الجوف، وقدرة الأمعاء على امتصاصها ضعيفة جداً، فهي تمتص في مكانها بواسطة شبكة كبيرة من الأوردة الدموية للدم مباشرة، ولا تستغرق هذه العملية وقتاً طويلاً، فهي كامتصاص الجلد الخارجي للماء.

ونرى أن يؤجل استعمالها إلى ما بعد الإفطار خروجاً من الخلاف؛ لأن كثيرا من أهل العلم قالوا باعتبارها من المفطرات؛ لكون الدبر منفذاً للجوف. ولكن إن كان لابد من استعمالها فنرجح عدم إفسادها للصوم، والله أعلم.

المسألة الثامنة عشرة : ما حكم التخدير بالبنج للصائم ؟

للتخدير عدة طرق، نبين أحكامها فيما يلي:

1.    التخدير عن طريق الأنف: بحيث يشم المريض مادةً غازية تؤثر في أعصابه، فيحدث التخدير، هذا لا يعدُّ مفطراً؛ لأن المادة الغازية التي تدخل في الأنف ليست جرماً، ولا تحمل موادا مغذية، فلا تؤثر في الصيام.

2.    وفي هذا النوع من التخدير يفقد المريض الوعي، فيأخذ حكم الإغماء، وسبق أن بيناه، إذا استوعب الإغماء طول النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فهو مفطر، أما إذا أفاق المريض في أي جزءٍ من النهار فلا يفطر.

3.    التخدير الجاف: وهو نوع من العلاج الصيني، ويتم بإدخال إبر مصمتةٍ جافةٍ إلى مراكز الإحساس، تحت الجلد، فتستحثَّ نوعاً معيناً من الغدد على إفراز المورفين الطبيعي، الذي يحتوي عليه الجسم، وبذلك يفقد المريض القدرة على الإحساس، وهو في الغالب تخدير موضعي، ولا يدخل معه شيء إلى البدن. وهذا التخدير لا يؤثر في الصيام؛ لعدم دخول أية مادة إلى الجوف.

4.    التخدير الموضعي بالحقن: كالحقن في اللثة مثلاً، وهذا كذلك لا يؤثر في صحة الصيام. سئل الشيخ ابن عثيمين عن سريان البنج في الجسم هل يفطر؟ وخروج الدم عند قلع الضرس؟  فأجاب فضيلته: " كلاهما لا يفطران، ولكن لا يبلع الدم الخارج من الضرس ".

5.    التخدير الكلي بالحقن في الوريد: وفي هذا النوع من التخدير يدخل مائعا إلى البدن من خلال الوريد ويفقد الصائم وعيه.

6.    أما أثر ذلك في الصيام، فبخصوص إبرة التخدير في الوريد، فهي لا تفطر إلا إذا كانت تشتمل على مغذٍ، وبخصوص حكم فقدان الوعي فقد ذكرناه سالفاً.

7.    إدخال المخدر من خلال إبرة للتغذية: وهذا التخدير مفطر للصائم؛ ليس لكون التخدير من المفطرات، وإنما بسبب الإبر المغذية، فالإبر المغذية كما أسلفنا تفسد الصيام.

8.    جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات ما يلي: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 10- غازات التخدير البنج ما لم يعط المريض سوائل محاليل مغذية ".

9.    وتجدر الإشارة هنا إلى أن المريض الذي يتم تخديره بشكل كلي يكون في حالة يباح له فيها الفطر، فلا يشق على نفسه، وإن استطاع تأخير إجراء العملية إلى بعد رمضان أو إلى بعد الإفطار فهو أفضل. إضافة إلى أن المريض الذي يتم تخديره كلياً قد يتم حقنه بإبر مغذية بعد ذلك أويُعطى أدوية معينة مفطرة. فنقول لا حرج عليه يفطر هذا اليوم ويقضي يوماً مكانه بعد أن يشفيه الله تعالى، قال تعالى: "فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" (البقرة:184). وقال أيضاً: " مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: 78). وقال كذلك: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ " (البقرة:185).

10.                       أما بخصوص من يتم تخديره موضعياً في يده أو قدمه أو أسنانه مثلاً فهذا لا أثر للتخدير في صيامه بإذن الله تعالى.

المسألة التاسعة عشرة : ما حكم ما يدخل مجرى البول (الإحليل) للصائم ؟

إذا أدخل الصائم في إحليله (مجرى البول للذكر والأنثى) مائعاً أو دهناً فإنه لا يفطر، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

ولا يفطر كذلك إدخال القسطرة (أنبوب دقيق)، أو المنظار، أو إدخال دواء، أو محلول لغسل المثانة، أو مادة تساعد على وضوح الأشعة، وهذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي، وذلك لأنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ فقد ظهر من خلال علم التشريح عدم وجود علاقة مطلقاً بين مسالك البول والجهاز الهضمي، وأن الجسم لا يمكن أن يتغذى مطلقاً بما يدخل إلى مسالك البول، كما أن الأصل صحة الصيام.

المسألة العشرون: ما حكم ما يدخل في فرج المرأة الصائمة ؟

التقطير في فرج المرأة، وكذلك التحاميل المهبلية، والغسول المهبلي، والمنظار المهبلي وأدوات الفحص المهبلية وضخ صبغة الأشعة، كل ذلك لا يعد مفسداً للصيام، وهذا قول المالكية والحنابلة، وعلَّلوا قولهم بعدم إفساد الصيام بأنه ليس هناك اتصال بين فرج المرأة والجوف، وهذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي، فقد أثبت الطب الحديث أنه لا منفذ بين الجهاز التناسلي للمرأة وبين الجهاز الهضمي.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات ما يلي: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 3- ما يدخل المهبل من تحاميل لبوس، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي. 4- إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم ".



المسألة الحادية والعشرون: ما حكم المناظير للصائم ؟

1.    منظار المعدة:

منظار المعدة لا يفطر، إلا إذا وضع مع المنظار سوائل أو محاليل أو مواد دهنية أو ما شابه لتسهيل دخول المنظار، فهنا يفطر الصائم بهذه المواد لا بدخول المنظار؛ وهذا قول بعض المالكية، وبذلك قال الحنفية حيث اشترطوا استقرار الداخل في الجوف وأن لا يبقى منه شيء في الخارج بينما المنظار لا يستقر في الجوف ويبقى طرفه في الخارج، ورجح عدم الإفطار شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره الشيخ ابن عثيمين، فقال في كتابه الشرح الممتع: " الصَّحيح: أنَّه لا يفطر؛ إلا أن يكون في هذا المنظار دهنٌ أو نَحْوه يصل إلى المعِدة بواسطة هذا المِنْظار، فإنَّه يكون بذلك مفطِّرًا، ولا يَجوز استِعْماله في الصَّوم الواجب إلا للضَّرورة ".

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات ما يلي: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 15- منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل محاليل أو مواد أخرى ".

ونرى تأجيل مثل هذه العمليات لبعد الإفطار خروجاً من الخلاف بين العلماء، فقول جمهور العلماء أن من أدخل شيئاً إلى جوفه أفطر ولو كان غير مغذٍ، وكذلك قد يصاحب العملية حقن المريض بإبر مغذية أو إعطاؤه أدوية معينة مفطرة.

ولكن إذا كان المنظار فقط بغرض الاكتشاف دون إدخال أي مغذٍ إلى جسم المريض، ولم يكن بالإمكان تأجيله لبعد رمضان أو بعد الإفطار، فنرجح كونه غير مفطر بإذن الله تعالى؛ لكونه ليس أكلاً ولا شرباً، ولا هو في معنى الأكل والشرب، ولأن الجسم لا ينتفع ولا يتغذى به.

2.    منظار البدن:

عبارة عن إدخال منظار من خلال فتحة صغيرة في جدار البطن إلى التجويف البطني، والهدف من ذلك إجراء العمليات الجراحية، كاستئصال المرارة، أو الزائدة، أو إجراء التشخيص لبعض الأمراض، ونحو ذلك. ولا علاقة لهذا المنظار بالمعدة بمعنى أنه لا يصل إلى داخل المعدة.

ومن المسائل التي تشبه منظار البطن وتحدث عنها المتقدمون من الفقهاء مسألة الجائفة، وهي الجرح الذي في البطن، يصل إلى الجوف، إذا وضع فيه دواء.

وقد اختلف فيها الفقهاء، وهي لا تفطر على مذهب مالك، وقول أبي يوسف ومحمد من الحنفية، وأبي ثور، وداود، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن ما يوضع في الجرح لا يصل لمحل الطعام، لأن المسلمين كانوا يجرحون في الجهاد وغيره مأمومة (شجة تصل إلى جلدة الدماغ) وجائفة (جرح يصل إلى الجوف)، فلو كان هذا يفطر لبُين لهم، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً.

وإذا ما قسنا منظار البطن على الجائفة، كان منظار البطن أولى بعدم التفطير من الجائفة؛ لكونه لا يصل إلى المعدة كما صرح بذلك الأطباء.

والقول بعدم التفطير هو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي، فجاء في قراره بشأن المفطرات: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ... 12- إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها ".

ومن الجدير بالذكر إلى أنه قد يصاحب عملية منظار البطن إعطاء المريض سوائل أو محاليل أو مواد أخرى، فيحصل له الفطر بهذه المواد وليس بسبب المنظار.

3.    منظار الشرج:

وقد سبق الكلام على منظار المعدة، وما ذكره الفقهاء فيه، وهو ينطبق على المنظار الشرجي.

وإن القول بعدم التفطير في المنظار الشرجي أولى وأقوى؛ ذلك أن الجوف هو المعدة بشكل أساسي ومع ذلك قال كثير من أهل العلم بعدم التفطير في منظار المعدة، فالقول بذلك في المنظار الشرجي أولى. وإذا وضع مع المنظار سوائل أو محاليل أو مواد مغذية أو ما شابه لتسهيل دخول المنظار، يحصل الفطر بسبب هذه المواد وليس بسبب المنظار؛ ذلك أن العلم أثبت –كما سبق بيانه- أن فتحة الشرج (الدبر) متَّصلة بالمستقيم، والمستقيم متَّصل بالقولون (الأمعاء الغليظة)، وامتصاص الغذاء يتمّ معظمه في الأمعاء الدقيقة، وقد يُمتص في الأمعاء الغليظة الماء وقليل من الأملاح والجلوكوز، والله أعلم.





المسألة الثالثة والعشرون: ما حكم إجراء عملية قسطرة الشرايين للصائم ؟

قسطرة الشرايين وهي عبارة عن أنبوب دقيق يدخل في الشرايين لأجل العلاج أو التصوير، وإدخال هذه القسطرة ليس مفطراً، وإلى ذلك ذهب مجمع الفقه الإسلامي؛ لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما، كما أن هذا الأنبوب لا يدخل المعدة ولا يستقر في الجسم.

جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن المفطرات: " أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: ...  12- إدخال قسطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء ".

وبعد سؤالي واستفساري حول موضوع قسطرة الشرايين تبين لي أنه من الصعوبة البالغة بل من غير الممكن أن يصوم من تُجرى له عملية قسطرة الشرايين؛ لأنه لابد أن يتناول حبوب وعلاجات وأدوية قبل وبعد العملية.

هذا بالإضافة إلى أنه قد يصاحب عملية القسطرة حقن المريض محاليل أو مواد مغذية، وهذه المواد يحصل الفطر بها.

--------------------------------------------------------

وأخيراً نذكر قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة سنة 1997م بجدة بشأن موضوع المفطرات للصائم:

قرار رقم: 93 (1/10) بشأن المفطرات في مجال التداوي

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 – 28 صفر 1418هـ الموافق 28  حزيران (يونيو) – 3 تموز (يوليو) 1997م،

بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع المفطرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9–12 صفر 1418هـ الموافق 14-17 حزيران (يونيو) 1997م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء،

قرر ما يلي:

أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:

1.    قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

2.    الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

3.    ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس)، أو غسول أو منظار مهبلي أو إصبع للفحص الطبي.

4.    إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.

5.    ما يدخل الإحليل، أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.

6.    حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

7.    المضمضة والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

8.    الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.

9.    غاز الأوكسجين.

10.                       غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.

11.                       ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهون والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.

12.                       إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.

13.                       إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.

14.                       أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.

15.                       منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل محاليل أو مواد أخرى.

16.                       دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.

17.                       القيء غير المتعمد، بخلاف المتعمد الاستقاءة.

18.                       ثانيًا: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق ... ".





الفصل الثامن

مسائل مهمة متعلقة بقضاء الصيام

المسألة الأولى: هل يشترط التتابع في قضاء رمضان ؟

من أفطر أكثر من يوم من رمضان لعذر، فله أن يقضي هذه الأيام مفرقة، ولا يجب التتابع في قضائها، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة. لقوله تعالى: "فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" (سورة البقرة:184)، ولا يوجد في الآية ما يقيد القضاء بالتتابع، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "لا بأس أن يفرق"، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: " إن شئت فاقض رمضان متتابعًا، وإن شئت متفرقًا ".



المسألة الثانية: هل يشترط القضاء على الفور أم أن في الأمر متسعا ؟

يجوز قضاء الصوم على التراخي في أي وقتٍ من السَّنَة، بشرط أن لا يأتي رمضان آخر، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، فعن أبي سلمة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: " كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " (رواه البخاري ومسلم).

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: " وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان سواء كان [يعني التأخير] لعذر أم لغير عذر ".

ولكن المسارعة إلى القضاء أولى، لقوله تعالى: " وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ " (آل عمران:133)، وقوله أيضاً: " أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ " (المؤمنون:61(.

المسألة الثالثة: ما حكم تأخير قضاء أيام من رمضان حتى دخول رمضان آخر، كامرأة عليها قضاء خمسة أيام من رمضان لعذر الحيض، فلم تقضِ حتى دخل رمضان الآخر؟

من أخَّر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين:

القول الأول: يلزمه القضاء مع الفدية، وهي إطعام مسكينٍ عن كل يوم، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز.

وذلك لِمَا أفتى به جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قال في رجل مرض في رمضان، ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول لكل يوم مدًّا من حنطة لكل مسكين، فإذا فرغ من هذا صام الذي فرط فيه ". كما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: " أطعم عن كل يوم مسكيناً ". ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلاف ذلك.

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " ومن أخرت القضاء إلى ما بعد رمضان آخر لغير عذر شرعي، فعليها التوبة إلى الله من ذلك مع القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم ".

ملاحظات:

1.    تجب الفدية في حالة تأخير القضاء إن كان التأخير بدون عذر، فإذا أخرت المرأة القضاء لعذر كمرض أو سفر أو حمل أو إرضاع، فتقضي ولا تجب عليها الفدية. وكذلك إذا أخرت القضاء لجهل حكم التأخير أو نسيان قضاء ما فاتها من رمضان، فتقضي ولا تجب عليها الفدية.

2.    من وجب عليه القضاء والفدية يجوز له أن يقدم القضاء على الفدية أو يقدم الفدية على القضاء أو يؤديهما في يوم واحد، واختار بعض أهل العلم تقديم الفدية على القضاء لما يشتمل عليه من المبادرة إلى الخير، قال الإمام الْمِرْدَاوِيُّ الحنبلي في كتابه الإنصاف: " يطعم ما يجزئ كفارة، ويجوز الإطعام قبل القضاء ومعه وبعده، قال المجد الأفضل تقديمه عندنا مسارعة إلى الخير وتخلصا من آفات التأخير ".

3.    وقال الإمام الدَّرْدِيرُ المالكي في الشرح الكبير على مختصر خليل: " أَيْ يُنْدَبُ الْإِطْعَامُ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ يَقْضِيهِ (أَوْ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ أَيَّامِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ أَطْعَمَ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِدُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقَضَاءِ أَجْزَأَ " (بتصرف).

4.    اختلف العلماء القائلين بوجوب الفدية حال تأخير القضاء، فيما إذا كان التأخير سنيناً هل تتضاعف الفدية أم لا ؟

1.    ذهب جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والشافعية في قول إلى أن الفدية لا تتضاعف، بمعنى أن من أخر القضاء لعدة أعوام لا تلزمه فدية عن كل عام أخره، بل يلزمه فدية واحدة مهما تأخر القضاء، قال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في المغني: " فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء؛ لأن كثرة التأخير لا يزداد بها الواجب، كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله ".

2.    وذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى أن مضاعفة الفدية بمرور السنين؛ لأن الفدية غرامة مالية، والحقوق المالية لا تتداخل. قال الإمام النووي الشافعي في المجموع: " ولو أخره حتى مضى رمضانان فصاعداً فهل يتكرر المد عن كل يوم بتكرر السنين؟ أم يكفي مد عن كل السنين؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما): يتكرر، صححه إمام الحرمين وغيره وقطع به القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد، وخالفهم صاحب الحاوي فقال: الأصح أنه يكفي مد واحد لجميع السنين، والأول أصح ".

القول الثاني: لا يلزمه إلا القضاء فقط، وهذا مذهب الحنفية، والظاهرية، واختاره الشوكاني، وابن عثيمين.

3.    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إذا ترك الإنسان قضاء رمضان إلى رمضان الثاني بلا عذرٍ فهو آثمٌ، وعليه أن يقضي ما فاته ولا إطعام عليه على القول الصحيح ".

المسألة الرابعة: ما حكم من كان عليه قضاء أيام من رمضان، ولم يقضها لعذر حتى مات ؟

4.    من كان عليه قضاء أيام من رمضان، ولم يتمكَّن من القضاء لعذرٍ كمرض حتى مات، فلا شيء عليه، ولا يجب الإطعام عنه، وهذا باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة وعليه أكثر أهل العلم؛ وذلك لأن الله إنما أوجب عليه القضاء في أيام أخر وقد مات قبل إدراكها، فهو كالذي يموت في شعبان قبل أن يدخل رمضان لا يقضى عنه.

المسألة الخامسة: ما حكم من كان عليه قضاء أيام من رمضان، ولم يقضها لغير عذر حتى مات ؟

من كان عليه قضاء أيام من رمضان، ومر عليه وقت يتمكن من القضاء فيه، ولم يقضِ بغير عذر حتى مات، فقد اختلف في حكمه على قولين:

القول الأول: يُطعَم عنه عن كل يوم أفطر فيه مسكيناً، وهذا قول جمهور أهل العلم: أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد وأحمد؛ لكون الصوم لا تدخله النيابة في الحياة فكذلك بعد الوفاة، فكما لا يجوز أن يُصام عن الميت في حياته لا يجوز بعد وفاته، كحكم الصلاة.

ملاحظة: قال الحنفية والمالكية: إن أوصي الميت بالإطعام أطعم عنه وليه لكل يوم مسكيناً، وإن لم يوصِ بذلك فلا شيء عليه. وقال الشافعية في المشهور في مذهبهم والحنابلة: الواجب على الولي أن يطعم عنه حتى وإن لم يوصِ بذلك.

القول الثاني: يصوم عنه وليه، فإن لم يفعل يُطعم عنه لكل يوم مسكيناً، وهذا قول الشافعي في القديم، واختاره النووي، وابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة.

فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه " (رواه البخاري ومسلم). وهذا أمر لكن ليس للوجوب، قال ابن عثيمين في كتابه الشرح الممتع: " فلو قال قائل: إن قوله صلى الله عليه وسلم: صام عنه وليه. أمر فما الذي صرفه عن الوجوب؟ فالجواب: صرفه عن الوجوب قوله تعالى: " وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " (الأنعام:164)، ولو قلنا: بوجوب قضاء الصوم عن الميت لزم من عدم قضائه أن تحمل وازرةٌ وزر أخرى، وهذا خلاف ما جاء به القرآن ".

ملاحظات:

1.    الولي الذي يقضي الصيام عن الميت هو وارثه؛ لقوله تعالى: " وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ " (الأنفال:75).

2.    وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه كان على أمها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى " (رواه مسلم).

3.    وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " يشرع لأوليائهما -وهم الأقرباء- القضاء عنهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق على صحته، فإن لم يتيسر من يصوم عنهما، أطعم عنهما من تركتهما عن كل يوم مسكين نصف صاع، ومقداره كيلو ونصف على سبيل التقدير ومن لم يكن له تركة يمكن الإطعام منها فلا شيء عليه؛ لقول الله عز وجل: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".

4.    وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " يستحب لوليه أن يقضيه فإن لم يفعل، قلنا: أطعم عن كل يوم مسكيناً ".

5.    اختلف أهل العلم في جواز صوم غير الولي (أي مسلم حتى ولو لم يكن قريباً) عن الميت، وأجاز الإمام النووي رحمه الله أن يصوم غير الولي لكن شريطة إذن الولي، فقال في شرح صحيح مسلم: " ولو صام عنه أجنبي إن كان بإذن الولي صح، وإلا فلا في الأصح".

6.    ورجح الجواز الإمام البخاري والقاضي أبو يعلى الحنبلي والإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر الحنابلة وابن عثيمين وغيرهم.

7.    ووجه ترجيح هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين، والدين يصح قضاؤه من أيِّ أحد، وإنما ذكر الولي لكونه الغالب، ولأن الراجح جواز هبة ثواب العبادات البدنية للموتى، فينبني على ذلك أنه ليس هناك ما يمنع أن يصوم أي أحد غير الورثة عن الميت.

8.    وقد بين الحافظ ابن حجر العسقلاني الخلاف في المراد بالولي، وفي جواز أن يصوم غير الولي عن الميت في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري، فقال: " اخْتَلَفَ الْمُجِيزُونَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلِيُّهُ فَقِيلَ كُلُّ قَرِيبٍ، وَقِيلَ: الْوَارِثُ خَاصَّةً. وقِيلَ: عَصَبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَالثَّانِي قَرِيبٌ، وَيَرُدُّ الثَّالِثُ قِصَّةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْ عَنْ نَذْرِ أُمِّهَا.

9.    قَالَ: وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلِيِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ إلَّا مَا وَرَدَ فِيهِ الدَّلِيلُ ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَرَدَ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.

10.                       وَقِيلَ: لَا يَخْتَصُّ بِالْوَلِيِّ، فَلَوْ أَمَرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَصُومَ عَنْهُ أَجْزَأَ، وَقِيلَ: يَصِحُّ اسْتِقْلَالُ الْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ وَذَكَرَ الْوَلِيَّ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ. وَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ اخْتِيَارُ هَذَا الْأَخِيرِ، وَبِهِ جَزَمَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَقَوَّاهُ بِتَشْبِيهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَرِيبِ".

11.                       وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الفتاوى ما مفاده: " وشبّه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالدَّين يكون على الميت، والدَّين يصحّ قضاؤه من كل أحد ، فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد لا يختص ذلك بالولد ".

12.                       وأفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بجواز أن يصوم عن الميت أي أحد غير الورثة، فقال: "إذا كان رجل قد أفطر في رمضان لسفر أو لمرض ثم عافاه الله من المرض ولم يصم القضاء الذي عليه ثم مات، فإن وليه يصوم عنه، سواء كان ابنه، أم أباه، أم أمه، أم ابنته، المهم أن يكون من الورثة، وإن تبرع أحد غير الورثة فلا حرج أيضاً، وإن لم يقم أحد بالصيام عنه فإنه يطعم من تركته لكل يوم مسكيناً".

13.                       في حالة الإطعام يكون على الوارث إخراج الفدية عن الميت من تركته، وتنتقل الفدية من ذمة الميت إلى ذمة الوارث، فإن لم تكن للميت تركة جاز للولي، بل وللأجنبي أيضاً، ولو من غير إذن، إخراج الفدية عن الميت من ماله الخاص؛ لأنه من قبيل وفاء الدين عن غيره، وهو صحيح، فإن لم يفِ أحد عن الميت تبقى الفدية معلقة بذمته، فإن شاء الله غفرها وعفا عنه برحمته.

المسألة السادسة: ما حكم من مات وهو عليه كفارة جماع ؟

كفارة الجماع عتق رقبة (وهي غير موجودة) فإن لم يجد عليه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع عليه إطعام ستين مسكيناً.

فمن عجز عن كفارة الجماع حتى مات فلا شيء عليه، ولا يجب الإطعام عنه، وهذا باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة.

أما إذا مات ولم يصم ولم يطعم مع القدرة على ذلك، يرد هنا نفس الخلاف في المسألة السابقة، فعلى قول الجمهور يُطعم عنه ستين مسكيناً من تركته وإن تبرع بها أحد أوليائه أو غيرهم فلا حرج في ذلك؛ إذ إنه دين في ذمته  ويجوز أن يسد الدين عن الميت أي أحد.

وعلى قول الشافعي في القديم الذي اختاره الإمام النووي، وابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة، يصوم عنه وليه، فإن لم يفعل يُطعَم عنه ستين مسكيناً.

ومن الجدير بالذكر هنا أنه إذا رغب الورثة أو غيرهم بصيام الشهرين المتتابعين عن الميت، فلا يجوز تقسيم الصيام على أكثر من واحد، بل يشترط أن يصومها شخص واحد حتى يصدق عليه أنه صام شهرين متتابعين .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه الشرح الممتع: " أما في كفارة الظهار ونحوها –ككفارة الجماع- فلا يمكن أن يقتسم الورثة الصوم لاشتراط التتابع؛ ولأن كل واحد منهم لم يصم شهرين متتابعين. وقد يقول قائل: يمكن بأن يصوم واحد ثلاثة أيام، وإذا أفطر صام الثاني ثلاثة أيام وهلم جرّا حتى تتم؟ فيجاب بأنه لا يصدق على واحد منهم أنه صام شهرين متتابعين، وعليه فنقول: إذا وجب على الميت صيام شهرين متتابعين، فإما أن ينتدب له واحد من الورثة ويصومها، وإما أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ".

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: " ولا يجوز أن يشترك في صيام الكفارة الواحدة أكثر من واحد ، وإنما المشروع أن يتولى الكفارة الواحدة شخص واحد ".





المسألة السابعة: هل يجوز لأحد أولياء المريض مرضاً لا يرجى برؤه أن يصوم عنه حال حياته؟

إذا كان المسلم مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه (لا يشفى منه) فلا صيام عليه ولا قضاء، وإنما عليه الفدية فيطعم مكان كل يوم مسكيناً، ولا يجوز أن يصوم عنه أحد حال حياته باتفاق الأئمة الأربعة وأكثر أهل العلم. وإذا مات المريض الذي لا يرجى برؤه قبل إخراجه الفدية، أخرجها الورثة من التركة قبل توزيع الإرث، وإن لم يكن للميت تركة يجوز للأولياء أو لغيرهم إخراجها من أموالهم عن الميت.

المسألة الثامنة: هل يجوز لمن يقضي أيام من رمضان أن يقطع صيامه ويفطر دون عذر؟

إذا شرع الإنسان في صيام قضاء أيام من رمضان، فإنه يلزمه إتمام الصيام ولا يجوز له أن يقطعه إلا لعذرٍ شرعي، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة.

فإن قطع صيامه لعذر فلا حرج، أما لو قطع بدون عذر فإنه يأثم لقطعه للعبادة الواجبة وتلاعبه بها؛ ولذا عليه التوبة إلى الله تعالى والاستغفار، وعلى الحالتين أفطر بعذر أم بدون عذر فإن عليه قضاء يوم واحد فقط، ولا كفارة عليه، وهذا على قول جمهور العلماء.

المسألة التاسعة: إذا أفطر الصائم في صيام التطوع فهل عليه قضاء؟

إذا كان المسلم يصوم يوماً تطوعاً لله تعالى يستحب له إكمال صومه، فإذا أفطر فلا قضاء  عليه سواءً كان إفطاره بعذر أم بغير عذر،  والأفضل ألا يفطر إلا لعذر أو سبب.

فلا يُلزم المفطر في صيام التطوع بالقضاء ولكن يستحب له ذلك إن شاء؛ وذلك لأن القضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن المقضي عنه واجباً، لم يكن القضاء واجباً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وعليه فتوى اللجنة الدائمة.

واستدلوا بعدة أدلة على ذلك، منها:

1.    حديث عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ ، فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ (تمر يخلط بسمن وأقط)، فَقَالَ: " أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَأَكَلَ " (رواه مسلم).

2.    حديث أُمِّ هَانِئٍ بنت أبي طالب رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَا بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ" (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).

3.    وفي رواية أخرى: " الصائم المتطوع أمين نفسه ...".

4.    وفي رواية أخرى: أن أُمِّ هَانِئٍ بنت أبي طالب رضي الله عنها، قَالَتْ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ، جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُّ هَانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ. قَالَتْ: فَجَاءَتْ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتْهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أُمَّ هَانِئٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً. فَقَالَ لَهَا: أَكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا ؟  قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَلَا يَضُرُّكِ إِنْ كَانَ تَطَوُّعًا " (رواه أبو داود وصححه الألباني).

5.    وفي رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ: " إِنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا، فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني).

6.    حديث أَبِي جُحَيْفَةَ وهب بن عبد الله رضي الله عنه، قَالَ: " آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ " (رواه البخاري).

7.    وجه الدلالة في هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقر سلمان على فعله مع أبي الدرداء، ولم يأمر أبا الدرداء بالقضاء.



المسألة العاشرة: علمنا أن الكافر لا يلزم بقضاء ما فاته من الصيام زمن كفره، ولكن من ترك الصيام من المسلمين تكاسلاً وتقصيراً لعدة سنين، ثم تاب الله تعالى عليه، هل يُلزم بالقضاء؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: عليه القضاء، وذلك باتفاق الأئمة الأربعة، وقد حكى الإمام ابن عبد البر المالكي الإجماع على ذلك، وبه أفتى الشيخ ابن باز، وعليه فتوى اللجنة الدائمة.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنه يلزم تارك الصيام تكاسلاً دون عذر، بالإضافة إلى القضاء، بفدية تأخير قضاء رمضان حتى دخول رمضان آخر كما سبق أن بينا، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

ملاحظة: أفتى الشيخ ابن باز واللجنة الدائمة أنه إذا كان تارك الصيام لا يصلي، فإن عليه التوبة على الله تعالى، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وليس عليه قضاء الصوم ولا الصلاة؛ لأن الذي لا يصلي كافر، والتوبة تجب ما قبلها.

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن امرأة كانت لا تصلي ولا تصوم، فأجاب: " إذا كانت لا تصلي عليها التوبة، التوبة مما تركت من الصلاة والصوم يكفي، أما إن كانت تصلي، ولكن تركت الصيام فعليها القضاء عما مضى ".

القول الثاني: لا يلزمه القضاء، وهو مذهب الظاهرية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وأفتى به الشيخ ابن عثيمين.

سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن مسلم ترك الصيام بدون عذر مع التزامه ببقية الفرائض، فأجاب: " الصحيح: أن القضاء لا يلزمه إن تاب؛ لأن كل عبادة مؤقتة بوقت إذا تعمد الإنسان تأخيرها عن وقتها بدون عذر: فإن الله لا يقبلها منه، وعلى هذا فلا فائدة من قضائه، ولكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ويكثر من العمل الصالح، ومن تاب تاب الله عليه ".













الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا هدانا الله، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلموعلى آله وصحبه والتابعين من تبعهم وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد؛

تناولت هذه الدراسة الحديث عن أحكام الصيام، من خلال بيان مفهوم الصيام وفضائله وحكمته، ومراتبه وأقسامه، وشروطه وأركانه، وسننه وآدابه، ومباحاته ومكروهاته، ومبطلاته، وبيان أهم المسائل المتعلقة بالمفطرات، وأهم المسائل المتعلقة بقضاء الصيام وأحكامه.

وإنني في ختام هذه الدراسة أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في عرض هذه الدراسة وبيان فصولها بطريقة مبسطة، وبتوفيق الله وبحمده بذلت جهداً كبيراً في إعدادها وواصلت أياماً بليالٍ لأتمكن من إخراجها بأبهى صورة، ولا أدعي لنفسي الكمال، فالكمال لله وحده لا شريك له، فما كان في هذه الدراسة من توفيق وسداد وصواب فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأ أو زلل أو نسيان فمن نفسي المقصرة والشيطان، وأستحضر في هذا المقام قول العماد الأصفهاني رحمه الله: " إني قد رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر ".

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم

على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،،،


0 comments:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More